قليلة هي الأشياء التي تسعد قلب الشغوفين بالساعات أكثر من التفرّج على الرقصة المنظّمة والدقيقة التي تؤديها مكوّنات الآليات التي تنبض داخل آلات الوقت. فليس مستغرباً أن فن تفريغ الحركات الميكانيكية، وإصدارات الساعات الشفافة skeleton تشهد من جديد حركة تصاعد ملحوظة.
في السنوات القليلة الماضية، شهدنا إصدارات متزايدة للساعات الشفافة، حيث تم تفريغ أقسام من موانئها وجسورها وصفائحها، لإظهار أجزاء الحركة جزئياً أو كلياً. ومع أن آلات الوقت الشفافة skeleton أو تلك المفرّغة skeletonized (وهما نوعان مختلفان من الساعات) ليست بالجديدة، إذ تعود نماذجها الأولى إلى قرون من الزمن، إلا أنها لا تزال تتطوّر وتغني القطاع بالجديد من إصداراتها.
إن تفريغ آليات الساعات هو أحد أصعب التقنيات المعتمدة في صناعة الساعات، فيقوم على إزالة كل الأجزاء التي يمكن الإستغناء عنها من الميناء والآلية، بهدف الكشف عن مكوّنات الحركة الميكانيكية النابضة داخل الساعة، أي الجسور، التروس، الصفائح العجلات والنوابض. علماً أن الأجزاء المتبقية تتم زخرفتها بتقنيات النقش والرسم، والاعتناء بتشطيب الزوايا والصقل، وغير ذلك من فنون تتطلب سنوات من الممارسة والخبرة للتمكن من إتقانها.
إن الفارق الرئيسي بين الساعات الشفافة والأخرى المفرّغة يكمن في أسلوب التصميم والتنفيذ. ففي النوع الأول يتم تصميم الأجزاء منذ البدء لتتكوّن منها الساعة والآلية الشفافة، بدل أن يتم تفريغ المكوّنات الخاصة بالحركة المصنوعة مسبقاً (كما في النوع الثاني)، كما ويصار إلى تصميم وتنفيذ باقي الأجزاء لتكمِّل الساعة التي تكشف عن قلبها للعيان.
ولعل Roger Dubuis وCartier تعتبران من أهم الدور المنتجة لهذه الساعات الشفافة التي تبدو عصرية، مغايرة تماماً للساعات المفرّغة التقليدية.
هناك حكاية معروفة (ولكنها على الأرجح خيالية) تروي أن تاريخ الساعات المفرغة يعود إلى أحد جنود نابوليون، الذي أراد أن يُصلح بندقيته وكان يحتاج قطعة معدنية، فارتأى أن يستعيرها من ساعة الجيب الخاصة به، وأخذ الخنجر الذي كان يحمله وأخذ يفرّغ الساعة لاستخراج ما يلزمه، وبهذا أصبحت الساعة مفرغة جزئياً. ولكن المعروف أن قبل ذلك بثلاثمائة سنة، أي في القرن الخامس عشر، كانت هناك نماذج من الساعات التي تحتوي فتحات وتظهر قسماً من آليتها إلى الخارج، كما وفي القرن السادس عشر أيضاً، عُرفت بعض ساعات العرض التي أتت بعلب شفافة وأطر معدنية لتكشف عن عمل آلياتها. ولكن المؤرخ في عالم صناعة الساعات «جيفري كينغستون» ذكر أنه وفي العام 1760، قدّم كل من الساعاتيين الفرنسيين «ليبين» و»كارون» النماذج الأولى من آلات الوقت التي يمكن وصفها بالشفافة بحسب المعايير المعتمدة اليوم، فهي كانت تضم صفائح مفرّغة تُظهر جسور الساعة وقد تمّت زخرفتها.
اليوم وبعد أكثر من 250 عاماً ، ما زالت الساعات الشفافة مستمرة في الإدهاش. فعندما أطلقت Vacheron Constantin مجموعة Métiers d’Art Mécaniques Ajourée، المستوحاة من خطوط الهندسة الصناعية التي كانت سائدة في أواخر القرن التاسع عشر، شرح المدير الفني للدار «كريستيان سلموني» عنها قائلاً: «إن تفريغ الآلية ومن ثم نقشها بأسلوب فني متطوّر، يضفي عليها مظهراً ثلاثي الأبعاد، كما وتقوم الأجزاء المعدنية بعكس الأنوار في مختلف الإتجاهات. لقد ابتكر فنانو النحت في الدار معنى جديداً للساعات الشفافة من خلال خلق التصاميم غير المسبوقة، كل ذلك مع المحافظة على المعايير الأصيلة التقليدية لفنون الزخرفة.»
لا شك أن Vacheron Constantin تُعتبر من بين أهم أرباب هذا الفن، وإحدى الدور القلائل التي تصدر نماذج شفافة تقريباً لكل ساعاتها، من البسيطة مروراً بتلك الشديدة الرقة، وصولاً إلى الساعات الأكثر تعقيداً كساعة Malte Openworked Tourbillon. ولكن لمَ الآن؟ «لقد شهدنا الكثير من التقدم التقني منذ التسعينيات، كما لحظنا منذ حوالي عشر سنوات عودة مدوية للأعمال اليدوية الزخرفية» يقول «سلموني»، ويضيف «لذلك فإنه ليس من المفاجئ أن تحظى الساعات الشفافة بهذا الإهتمام الكبير اليوم، كونها تقوم على تمازج نادر الحصول بين الناحيتين التقنية والجمالية.»
مع موجة انتشار الساعات الشفافة مؤخراً، أصبح هناك مفهوم جديد لما يجب أن تكون عليه الساعة الشفافة «الحقيقية». فصلب الموضوع أصبح يتمحور حول كونها قد صُنعت يدوياً أو لا، فالكثير من النماذج أصبحت تُفرَّغ بواسطة آلات حديثة ذات قدرات تقنية عالية، وطرق صناعية كالتفريغ بواسطة الإشعاع الحراري، أو تقنيات القطع التي يتم التحكم بها من خلال أجهزة الكومبيوتر، بدل من أن يقوم فنان النحت بتفريغ الآلية يدوياً ببراعة.
إن التفريغ الصناعي يساعد بلا شك على المحافظة على أعلى مستوى من الدقة، فأي فرق بسيط في تفريغ أي من المكونات الصغيرة للآلية يمكن أن يؤثر بشكل سلبي على أداء آلة الوقت، ولكن ومع هذا، فإن هذه الساعات وبحسب «جيفري كنغستون»، لا يمكنها أن تعادل الساعات «الحقيقية» الكلاسيكية الراقية المفرّغة يدوياً من حيث القيمة. وتجدر الإشارة إلى أنه وعند النظر من خلال مكبّر إلى داخل الساعة الشفافة، يمكننا بسهولة معرفة إذا كانت مفرّغة يدوياً، فوحدها يد النحات بإمكانها أن تجعل الزوايا حادة جداً، بينما تكون الزوايا التي تحدثها الماكينات الصناعية مائلة إلى الشكل المستدير قليلاً. ونقدر أن نقول أن عمليات التفريغ بواسطة الآلات الصناعية ليست ضرورية، إلا بهدف زيادة الإنتاج وتقليص الكلفة.
ويشرح «كلاوديو كافاليير» السفير العالمي لدار Audemars Piguet المعروفة بجودة ساعاتها الشفافة قائلاً: «إن عمل Audemars Piguet في هذا المجال يتميّز بأساليب التشطيب وصناعة الزوايا التي يمكن فقط أن تُنجز باليد، وليس بواسطة الآلات.»
أما الدار اليافعة Grieb & Benzinger فهي متخصصة بالساعات الشفافة المصنوعة يدوياً، ما جعلها محبوبة من قبل الجامعين والخبراء في القطاع. هذه الساعات ليست متوفرة في البوتيكات، بل فقط من خلال خدمة Concierge على شبكة الإنترنت، ما يزيدها فرادة وحصرية. كما أنها تتفرد بجمعها الحرف اليدوية الثلاثة في ساعاتها، أي التفريغ اليدوي، النحت والزخرفة. من هنا يعتبر «جورج بارتكوياك»، المسؤول عن قسم التصميم والتسويق في الدار أن «الساعات الشفافة الحديثة لم تعد تُعتبر بمثابة قطع فنية ناتجة عن خيال النحات، ولكنها باتت تُصمّم على شاشة الكومبيوتر بنسبة تقارب الـ 99%. الكومبيوتر أصبح بإمكانه اليوم تحديد القوة المطلوبة للمعدن المستعمل في الجسور والصفائح، كما أن آلات القطع والتفريغ الحديثة بإمكانها إخراج ساعات متشابهة تماماً، وذات خطوط مثالية جميلة، ولكنها تبقى قارئات وقت «من دون روح» بالنسبة إلى الخبراء.» ويضيف، «نحن ننأى بأنفسنا عن قواعد الإنتاج الحديث للساعات، ونتمسك باستعمال الأدوات التاريخية والآلات التي يعود عمرها إلى أكثر من 100 عام، وذلك بهدف الخروج بقطع فنية حقيقية.»
في الخلاصة، إن مفهوم الساعات الشفافة أو المفرغة هو شخصي تماماً، مرتبط جداً بالأساليب المختلفة لمنفذيها، أما اختيار الساعات الفريدة المصنوعة والمزخرفة يدوياً، أو تلك المفرغة صناعياً فهو يعود إلى الزبون. ولكن ما يمكننا التأكيد عليه هو أن الساعات المفرّغة الشفافة تتمتع بشعبية واسعة جداً عند هواة آلات الوقت والشغوفين بها.
إعداد: نيك رايس | words: Nick Rice