الحيوانات تجتاح مجموعات المجوهرات

تمتد علاقة الإنسان بعالم الحيوان إلى ملايين السنين، تطوّرت وتبدّلت بعض معالمها مع الوقت ولكن الشراكة قائمة لا محالة. فبعد أن كان صيد الطرائد حاجة أساسية لتأمين غذاء الناس وردائهم تارة، ولحمايتهم من خطر الشرسة منها طوراً، انتقلت هذه العلاقة إلى مرحلة أخرى قامت على استعمال الإنسان للحيوانات في العديد من المجالات، كالتنقّل والسفر والزراعة وتأمين قسم من الغذاء وحراسة المنشآت.

ويبدو بعد ذلك أن فكر الإنسان اتجه إلى منحى أكثر سلاماً باتجاه تلك المخلوقات، فدخلت الأليفة منها إلى البيوت لتشارك الناس حياتهم بشكل فعلي، ونشطت من جهة أخرى الجمعيات العالمية لحماية حقوق الحيوان والحفاظ على الفصائل المعرّضة للانقراض، وعُيِّن الرابع من أوكتوبر منذ العام 1931 يوماً عالمياً للحيوانات حيث يتم تخصيصها بنشاطات متنوّعة تقام في مختلف أنحاء العالم، كما وصلت المجتمعات إلى مستوى عالٍ من الاهتمام بها عبر سنّ القوانين الخاصة بحمايتها، إنشاء مدارس التدريب، المستشفيات، المحميات البيئية، وحتى الفنادق والمنتجعات الفخمة أحياناً لتدليل الحيوانات، والمتاجر الفاخرة لأزيائها وأكسسواراتها، حيث يتم الاهتمام بجمالها وأناقتها.

ولا شك أن الإنسان قد رأى منذ البدايات الجمال الذي وضعه الخالق في تلك المخلوقات، جوية كانت، أرضية أو بحرية، فأخذ يدخلها إلى ديكورات المنازل، ويقلّدها في لباسه ناسجاً أقمشة وأزياء متزيّنة بنقوشها الطبيعية، كما وارتدى الصوف والجلد والفرو والريش. أما عالم المجوهرات، فقد زخر منذ أيام الحضارات القديمة بالقطع المصنوعة من مواد مأخوذة من الطرائد، أو هي تجسّد تلك المخلوقات بجمالها وسحرها الطبيعي، هذا وبالإضافة إلى المكانة والرمزية الخاصة التي تتمتّع بها بعض الحيوانات في مجتمعات معيّنة، والإلهام الخاص أو القوة المعنوية التي تمدّ بها حامليها.

 

بداية دخول الحيوانات إلى دور المجوهرات؟

للاطلاع على بدايات دخول مجسمات الحيوانات إلى عالم التصاميم الخاصة بالمجوهرات، تحدّثنا إلى Sophie Stevens وهي نائبة المدير والاختصاصية في المجوهرات في Sotheby’s Middle East في دبي، وقد اعتبرت أن تاريخ ظهور الحيوانات في مجال الصيلغة يعود إلى آلاف السنوات، وكمثال على ذلك أشارت إلى الأفاعي والخنافس التي كانت تتجسد مراراً وتكراراً في المجوهرات المصرية القديمة، ولكن “الظهور الحقيقي لعالم الحيوان في تصاميم الصائغين قد بدأ في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وكان ذلك من خلال التصاميم والأشكال المختلفة. أما الاحتضان الكامل لعالم الطبيعة والحيوان فقد تم من قبل صائغي فترة Art Nouveau الذين تضمّنت مجوهراتهم مجسمات للحشرات واليعسوب، وقد استخدموا لصياغة هذه المجوهرات مواد مميزة مثل الزجاج والمينا والعاج، كما وفي المراحل اللاحقة أي خلال الفترة التي طغت عليها حركة Art Déco، برز مصممون مميزون مثل Raymond Yard الذي منح قطعه الكثير من الإبداع وبعض المرح، ونأخذ على سبيل المثال مشبك Rabbit Waiters الذي يجسّد الأرنب الذي يعمل نادلاً في مطعم”.

وتتابع ستيفنز: “ومع أن تصميم النمر المرصع بالماس والأونيكس الذي يحمل توقيع Cartier قد ظهر للمرة الأولى في منتصف العقد الأول من القرن العشرين، إلا أن القطع الأولى التي تتضمّن مجسمات ثلاثية الأبعاد لنمر الدار لم تُطلق إلا في نهاية الأربعينيات، وذلك بفضل الشعبية الواسعة التي حصل عليها هذا التصميم من قبل الجامعين لا سيما دوقة وندسور و Barbara Hutton. كما أن بعض الحيوانات الأخرى أصبحت تربطها علاقة وطيدة ببعض الدور، مثل علاقة Bulgari بالأفعى منذ إطلاق القطعة الأولى من مجموعة Serpenti في الأربعينيات، وقد لاقت هذه المجموعة إقبالاً شديداً من الجمهور، ولعل أبرزهن Elizabeth Taylor. 

وتضيف: “في هذه الفترة، قامت Van Cleef & Arpels بإدخال مجسمات الحيوانات إلى مجموعتها Boutique التي تتميّز بأسعارها التي تطال شريحة واسعة من الجمهور، فأتت قطع المجوهرات مزيّنة بمجسمات تشبه رسوم الكارتون وتضم مجموعة متنوّعة من الحيوانات مثل الأسد، القط الذي يغمز بعينيه، الكلب الصغير ذي العينين الواسعتين وغيرها. كما وتناولت بعض أبرز تصاميم الدار وأغلاها ثمناً موضوع الحيوانات، فقطعة المجوهرات الأغلى من فئة الحيوانات والتي تم بيعها في مزاد Sotheby’s كانت عبارة عن مشبك Walska Briolette Diamond، وهو من تصميم الدار في العام 1971، ويجسد طائر الفينيق يحمل في منقاره ماسة صفراء فاخرة قطع بيضوي قابلة للفك والتكيب زنتها 96,60 قيراطاُ، وقد بيع بقيمة 9,685,000 فرنك سويسري في العام 2013.  

وتعتقد ستيفنز أن “الحيوانات التي تحبها دور المجوهرات بشكل كبير لرمزيتها ولطافتها، ما زالت حتى اليوم من المواضيع المفضلة بالنسبة إلى الصائغين، ويظهر ذلك إن من المجموعات التي تابعت الدور إصدارها طوال القرن العشرين، وإن من خلال تصاميم المصممين المعاصرين أمثال Cindy Chao التي أدخلت العديد من تلك المخلوقات الرقيقة والفراشات إلى تصاميمها”.

 

عالم الحيوانات الماسية مليء بالسحر

وفي سياق آخر، التقينا أيضاً Catherine Cariou وهي المسؤولة عن مجموعة LA Collection Privée لدار كريستيان ديور، والمديرة السابقة لقسم المجوهرات التاريخية لدى فان كليف أند آربلز وتحدّثنا معها عن عالم الحيوانات في قطاع صياغة المجوهرات.

 

نرى الكثير من الحيوانات على غرار الكلاب، القطط، الأسود والنمرة وحتى الحشرات المصنوعة من الذهب والبلاتين والمرصعة بالماس والأحجار الكريمة، وهي تحمل تواقيع عدد من أهم دور المجوهرات العالمية. فما هو السبب الذي يجعل عالم الحيوان مصدر إلهام للصائغين؟

يستمد المصممون الإلهام من حياتهم، طفولتهم، ثقافتهم، رحلاتهم، قراءاتهم، المعارض التي شاهدوها، وبالطبع من خيالهم وأحلامهم. كل هذه التجارب تغذي خيالهم وتسمح لهم بتصميم مجوهرات على شكل الحيوانات الحقيقية أو الوهمية. في كل جوهرة من هذه الفئة، يوجد جزء منهم ومن ذاكرتهم في مكان ما. ومن وجهة نظر فنية أكثر، يعتبر التصميم على شكل الحيوان بمثابة “اختبار للأسلوب”، فهو الطريقة الأفضل والأكثرها صعوبة في الوقت عينه، للتعبير عن مميزات وخبرة المصمم. الأناقة في التصميم، دقة ونقاء الخطوط، دقة الأشكال، دقة التفاصيل والمزج في التدرجات اللونية من الريش المخملي إلى الفراء هو أداة للتعبير عن القوة، وتحدٍّ حقيقي بالنسبة إلى المصممين!

 

هل يمكننا اعتبار المجوهرات المصممة على شكل حيوانات “موضة” عابرة تظهر حيناً وتختفي في حين آخر، أو إنها مصدر إلهام ثابت للصائغين؟

تُعتبر الحيوانات والأزهار مصدراً ثابتاً ومستمراً للصائغين. جميع دور المجوهرات قد قامت بإدخال مجسمات الحيوانات إلى مجموعاتها في كل الحقبات. ولكن يمكنني القول أن الستينيات والسبعينيات هما الحقبتان الأكثر إبداعاً في هذا المجال، ربما بسبب التأثير الشرقي في تلك الفترة على عالم المجوهرات. حالياً، الطيور المزركشة الألوان لا يمكننا مقاومة جمالها، وهي تبدو وكأنها تدعوك إلى رحلة في الزمان والمكان.

 

من الناحية التقنية، إلى أي مدى يمكننا اعتبار إنتاج المجوهرات المستوحاة من الحيوانات مهمة صعبة؟

تقنياً، وبالنسبة إلى إنتاج قطعة من المجوهرات الفاخرة، يجب أن تكون جودة الأحجار تؤهلها لتجسّد الريش والفراء بشكل جميل، لذلك فإن اختيار الأحجار من قبل الخبراء هو أمر شديد الأهمية، فعملية الإجتيار والتنسيق بين الأحجار تساعد على الوصول إلى الهدف النهائي. أما بالنسبة إلى قطع المجوهرات الأقل ترصيعاً، أي حيث يكون المعدن أكثر ظهوراً من الأحجار، فهنا يجب على الفنانين العمل بدقة تامة حتى يستطيع التصميم إظهار الأجنحة والتفاصيل الأخرى بوضوح شديد. إذاً فالحرفية التي يتمتع بها الفنانون تلعب الدور الأهم في صياغة هذا النوع من المجوهرات.

 

نحن نعلم أن عالم الحيوانات يرتبط بقوة بالمعتقدات القديمة والرمزية والتقاليد والطقوس الدينية. هل هذه هي الأسباب التي تجعل الناس ينجذبون إلى المجوهرات المستوحان من عالم حيوانات؟ وهل يختلف ذلك حسب كل شخصية وكل منطقة وثقافة؟

ركزت مجوهرات القرن العشرين بشكل كبير على مجسمات الحيوانات. البرية منها مثل الأسود والفهود أو الأليفة مثل القطط أو الكلاب، وهي جميعها تحما رموزاً للفضائل وسمات الشخصية والقيم. اشتهرت Jeanne Toussaint المديرة الفنية الشهير لدار كارتييه، بشخصيتها القوية، وهي كانت وراء شخصية النمر الأيقونية في الدار. وهذه المجوهرات هي مخصصة فقط للسيدات القويات. ونذكر أيضاً دوقة وندسور المعروفة بقوتها، والتي بسببها تخلى الملك إدوارد الثامن عن العرش، كانت واحدة من السيدات الأكثر شهرة الذين يملكون مشبك النمر.

أما القط الذي يغمز بعينيه من إنتاج Van Cleef & Arpels فهو على سبيل المثال من ضمن مجموعة المجوهرات المستوحاة من الحيوانات من إنتاج الدار في العام 1954، والتي تتضمّن العديد من مجسّمات الحيوانات. هذا المشبك حصلت عليه أنا كهدية عندما كنت في العشرين من العمر بسبب شخصيتي الماكرة التي تشبه شخصية القطط… كل إنسان يمكن أن يكون لديه بعض الميزات التي تذكر بحيوان ما، بغض النظر عن الحقبة والمكان.

 

أصبحت بعض مجسمات الحيوانات رمزًا لبعض العلامات التجارية ، مثل الأسد بالنسبة إلى دار Chanel، والنمر عند Cartier، والثعبان في Bulgari، وما إلى ذلك. بحسب خبرتك الساقة مع Van Cleef & Arpels هل يمكنك إخبارنا ما إذا كان لدى الدار أي رمز من عالم الحيوان؟ علماً أن في مجموعاتها العديد من قطع المجوهرات المستوحاة من عالم الحيوانات (Lucky Animals Collection على سبيل المثال) ، ولديها بعض القطع الرائعة في أرشيفها مثل مجموعة Butterflies (منذ تأسيس العلامة التجارية) ومشابك حيوانات ساحرة (منذ العام 1954). هل ما زالت الحيوانات حتى اليوم تلهم الدار؟

لا أعتقد أن هناك حيوانًا يجسد مملكة حيوانات Van Cleef & Arpels، على عكس كارتييه والفهود. كانت الحيوانات دائماً جزءاً من مجموعات المجوهرات منذ بداية تأسيس الدار في العام 1906؛ مجسمات قريبة إلى الواقع منها طيور الجنة، الببغاوات، طيور النورس، الفيلة، النمور، السناجب، البط، الزرافة، القلطي، الحشرات، النحل، السنونو، اليعسوب، الطيور الطنانة، الثيران، الفراشات، الأرانب، الكلاب، البوم والحيوانات الأسطورية مثل التنين ووحيد القرن، هذه الحيوانات رافقت مسيرة فان كليف آند آربلز. واحدة من الحيوانات التي أفضلها هي طيور الحب، التي قامت الدار بإنتاجها بعد الحرب العالمية الثانية كرمز لإعادة لم شمل العائلة، وهي ساحرة للغاية ومليئة بالحنان. وقد لاقت هذه الطيور نجاحًا كبيرًا حتى نهاية الستينيات.

 

والمزيد من الدور المسحورة بالحيوانات

وعالم الحيوان استطاع عبر السنوات إثارة اهتمام العديد من دور المجوهرات الأخرى لا سيما دار  Theo Fennellالتي أطلقت مجموعة Bees المصوغة من الذهب الأبيض والأصفر، والمرصعة بالماس الأبيض والأسود والسافير الأصفر، بينما نرى العديد من الحيوانات المليئة بالحياة في مجوهرات Daniella Villegas التي عملت على تجسيد المخلوقات البحرية والحشرات وغيرها من عالم الحيوان، ودار Chaumet التي أغنت هذه الفئة بمجموعة Attrape-moi… si tu m’aimes وغيرها من القطع، كما وجدّدت Boucheron تعبيرها عن الشغف بالحيوانات في العام 2018 من خلال بعض قطع Hiver Imperiale وفي العام 2019 تضمّنت مجموعة Paris, Vu du 26 عدداً من قطع المجوهرات المستوحاة من عالم الحيوانات، كما أن دار Chopard أدخلت عدداً من مجسمات الحيوانات إلى مجموعة مجوهراتها الفاخرة.

واللائحة تطول فنشهد الجديد والجديد في القطاع من المجوهرات المستوحاة من هذه المخلوقات الصغيرة التي لا يُملّ من مراقبتها وتأمّل تحرّكاتها، والتي تخيفنا أحياناً بوحشيتها، وفي أحيان أخرى تعلمنا وتلهمنا بحكمتها، تدهشنا بقوتها وتفتننا بجمالها الأخاذ…

 

إعداد: ليزا أبو شقرا

مجلة عالم الساعات والمجوهرات العدد 127

 

 

 

كلمات مفتاحية

مقالات ذات صلة