Boisseliers du Rif : جواهر من خشب

في مشاغل Boisseliers du Rif تفوح الرائحة الطيبة للخشب، لتطغى على المشهد العام حيث تمتزج ألوان الطلاء مع لمعان أوراق الذهب، والتدرجات الفاتحة والداكنة لقشور الأخشاب. هناك تمتزج أصوات الماكينات وقرقعة ضربات المطارق وأصوات العاملين في الورشة، مع رنين أصوات فيروز وأم كلثوم وفريد الأطرش، التي تصدح من ماكينات التسجيل التي يستمع إليها «معلمو صناعة الخشب»، ليكتمل بها الجو النيو-كلاسيكي الذي يجمع بين الحنين إلى الماضي، و»عصرية» الزمن الحالي.

«الوقت هو مجموع الخبرات التي يعيشها الإنسان منذ اللحظة التي يطل فيها على الحياة، وصولاً إلى وقت الغياب» يقول السيد جان مارك ريف، الشريك الإداري في شركة

Boisseliers du Rif المتخصصة في صناعة المفروشات الخشبية الراقية، وقطع الهدايا الفخمة، وكل أنواع الأعمال الخشبية ذات الجودة العالية، والتي تملكها عائلته منذ العام 1913. ويضيف: «الوقت هو المسيرة التي يختار الإنسان أن يعيشها مع كل الظروف التي تحيط بها، الرحلة التي يبدأها هو مستثمراً رصيده الزمني، ويكملها من يأتي من بعده. تماماً كما هي الحال بالنسبة إلى شركتنا». فهذه الشركة ذات الطابع العائلي، أسسها الجد «حنا ريف» في العام 1913 كما ذكرنا، ليستلم زمام أمورها إبنه الوحيد السيد «جوزيف ريف» في العام 1966، ومن ثم وصل دور الإبن الوحيد جان مارك ليحمل «الشعلة» كما يسميها، ويكمل المسيرة.

أما القصة الكاملة للشركة التي رواها لنا بشغف فهي لا تخلو من التشويق، وقد بدت وكأنها محفورة في ذاكرته، فلا شك أنه قد استمع إلى تفاصيلها الدقيقة مراراً وتكراراً من الوالد، «البطل الحقيقي» للرواية. يقول: «القصة بدأت حين كان جدّي نجاراً في ضيعتنا القليعات في قضاء كسروان، وذلك خلال الحرب العالمية الأولى، وبعد انتهاء هذه الفترة الأليمة، وحين أصبح التنقل في البلد متاحاً بشكل أسهل، إنتقل إلى بيروت، وتحديداً منطقة برج حمود، حيث لا نزال نحتفظ (رمزياً) بالمشغل الأول له. عندما أصبح والدي في سن مناسبة للعمل، كان يحاول أن يبث حياة جديدة في أعمال أبيه الذي كان شديد التحفّظ تجاه جرأة ابنه في تسيير وتطوير الأعمال. ولكن هذا الأخير وبفضل إصراره ومثابرته وحسن استثماره للأفكار العصرية، استطاع توسيع أعمال مشغل والده، والتواصل مع زبائن جدد، واستلام المشاريع، مما أدى إلى ازدهار العمل بشكل جيد».

ولكن كما نعرف، فإن الزمن كان قاسياً على لبنان ابتداءً من فترة السبعينيات، فكيف استطاعت الشركة المحافظة على وجودها، مع العلم أن البلد مرت بفترة زمنية سادها الدمار، ولم يكن بالتالي هناك من مكان للإعمار والورش والصناعات الراقية؟ يجيب: «في العام 1978 صنع والدي البراد الأول الخاص بالسيجار أي ما يسمى Humidor، حمله وسافر إلى سويسرا ليعرضه على شركة Davidoff التي كانت من القلائل المتخصصة بهذا النوع من الصناعات. عندما عرفوا أنه لبناني، طغى عليهم الإستغراب لأنهم كانوا يعلمون أن البلد تعمها الحرب، ولكن بما أن البضاعة التي عرضها عليهم كانت منافِسة للبضائع التي كانوا ينتجونها من حيث النوعية والكلفة، قبلوا بتسجيل الطلبية الأولى من هذه المنتجات، وكانت مؤلفة من 300 قطعة، ولكن من دون أي «دفعة أولى» مسبقة من الحساب، وذلك لغياب الضمانات نظراً إلى الأوضاع الأمنية في لبنان. ومع ذلك تمكن أبي من تنفيذ العقد وتسليم البضائع في الوقت المحدد، وكانت تلك بمثابة بداية جديدة لمسيرتنا العملية».

أصبحت الشركة معروفة بكونها متخصصة بجميع أنواع الصناعات الخشبية الفاخرة، وأراد جوزيف الريف أن ينقل البضائع اللبنانية إلى العالم، فشارك للمرة الأولى في معرض ميلانو الدولي في العام 1980، وهنا يخبرنا بنفسه: «بسبب الحرب، تأخرت البضائع ولم تصل في الوقت المحدد، وفي اليوم الأول من المعرض كانت مساحات العرض جميعها مليئة بالمعروضات، ما عدا المنصة الخاصة بلبنان، فقمت بملء تلك المساحة بالعلم اللبناني، استنكاراً للحرب وتضامناً مع وطني. هذه المبادرة لاقت الكثير من الترحيب والتضامن من جميع الموجودين، وقامت الوسائل الإعلامية بتغطيتها وتوجيه رسائل الدعوة إلى السلام من خلالها. في اليوم التالي وصلت البضائع، سهرنا طوال الليل على ترتيبها، وسجّلنا حضوراً مميزاً للبنان على خارطة الصناعات الفنية العالمية».

اليوم، Boisseliers du Rif هي فرد من أفراد جمعية الصناعيين اللبنانيين، كما أنها عضو مسجل في غرفة التجارة والصناعة والزراعة في بيروت وجبل لبنان، وبفضل سيرتها الحسنة التي تسبقها إلى كافة أنحاء العالم، استطاعت أن تقوم بتفيذ مشاريع في كل من الصين، جنيف، لندن، باريس، الأردن وسوريا، إلى جانب عدد من البلدان الخليجية كالمملكة العربية السعودية، قطر والكويت، والجدير بالذكر أن الشركة «تنتقل بعدادها وعديدها إلى كل من هذه الدول لتنفيذ الأعمال، أي أننا ننقل معداتنا وموادنا الأولية وعمالنا، على أن تُنفَّذ الأعمال تحت إشرافنا المباشر لنكون أكيدين أن النتيجة ستكون على أكمل وجه» بحسب قول جان مارك.

وعن سؤال إذا كان الزمن اليوم ما زال زمن الصناعات والمفروشات الكلاسيكية يجيب: «التحدّي الأساسي الذي واجهته عند قدومي إلى الشركة بعد دراستي الهندسة وتخصصي في مجال الديكور الداخلي كان كيف يمكننا أن نجذب الجيل الجديد، وأن نقنعهم بأن المشاغل اللبنانية بإمكانها أن ترضي أذواقهم، وهنا لاحظت أن قسماً لا يستهان به من الشباب يحبون الأساليب الكلاسيكية ويسعون إلى اعتمادها في تجهيز منازلهم، كما أن هناك أيضاً من يحبّون المزج بين الماضي والحاضر، فيختارون الأسلوب النيو-كلاسيكي، أي التصاميم الكلاسيكية المنفذة على مواد عصرية وألوان لم تكن مألوفة من قبل في صناعة المفروشات الفخمة». وعندما سألناه عن مدى إدخال التكنولوجيا العصرية إلى أعمال الشركة، اعتبر أن المكننة هي شيء مهم فعلاً في تنفيذ الأعمال، و»نحن يجب علينا ملاقاة العصر من الناحية التكنولوجية، مع الأخذ بعين الإعتبار أن قطعنا التي تُصنَّف ضمن «منتجات اللوكس» تفتخر بكون نسبة كبيرة منها ما زالت تُصنع يدوياً، ينفّذها الحرفيّون العاملون لدينا، وتكتسب قيمتها من هذه اللمسة الجمالية اليدوية، ومن المجهود الكبير والوقت اللازم لتنفيذ كل منها. على أن تلعب الآلات دوراً مهماً في توفير الوقت والتعب الجسدي على هؤلاء الحرفيين». فبرأيه أن التكيّف مع كل جديد وعصري هو أحد أسس النجاح في العمل وفي الحياة الإنسانية، فالزمن «قادر على تغيير الشخص، على تعريفه إلى نفسه أكثر، صقل معرفته وتعميق خبراته، تصويب تصرفاته، وجعله يعرف أكثر قيمة الحياة وقيمة المحيطين به، والأشخاص الذين يحبونه». وعلى سيرة الأشخاص المحيطين بالشخص والمحبين له، سألناه عن الوقت الذي يخصصه للعائلة، أجاب: «عندما قررت بناء عائلة، وعدت زوجتي بأن هذه العائلة الصغيرة ستكون هوايتي الوحيدة في الحياة، أمضي في كنفها كل أوقاتي الخارجة عن نطاق العمل، وأحاول أن أمنحها اهتمامي كاملاً. وهذا هو واقعي اليوم، فعائلتي هي إنجازي الأكبر، وسعادتي المطلقة».

اختتمنا لقاءنا مع هذين الرجلين المبدعين من عائلة ريف اللبنانية بجولة بين الغرف العديدة في المعمل، رافقنا فيها السيد جوزيف ريف شخصياً، حيث عرّفنا بشكل عام على مراحل إنتاج القطع الرائعة التي تحمل توقيع Boisseliers du Rif.

ودعنا على عتبة الباب الخارجي بابتسامة رجل أنيق في العقد السابع من العمر، وعاد أدراجه إلى مملكته ليجول بين

«تحفه الخشبية»، متنشقاً أريج رائحة الخشب، ومتنقلاً من رواق إلى رواق على وقع موسيقى الأغاني القديمة التي أطربته في أيام الزمن الجميل.

إعداد: ليزا بو شقرا

كلمات مفتاحية

مقالات ذات صلة