كثيراً ما نرى موانئ الساعات أو الجهات الخلفية للعلب مزخرفة برسومات أو مجسّمات «مصغّرة» خلابة، تصف جمال الطبيعة تارة، تحمل رسائل معيّنة أو تجسّد مشاهد حياتية تارة أخرى. فما علاقة صناعة الوقت بفن التصغير، علامَ يلتقيان وكيف يتكاملان..؟
يُعتبَر فن التصغير أي Miniature Art من الفنون التخصصية الراقية، بعض قطعه تعود تاريخياً إلى القرن السابع، حيث توجد كتب ومخطوطات مزينة بالرسومات المصغرة من تلك الحقبة، ولكن المعروف أنه بدأ بالانتشار فعلياً كفن حقيقي منذ بدايات القرن السادس عشر. وهو يقوم على تجسيد المشاهد أو الأشخاص في رسومات صغيرة لا يتعدى حجمها نسبة 6/1 من الحجم الطبيعي للمشهد الأصلي، لكن ومع ضآلة حجمها، يمكنها منافسة أضخم الرسومات من حيث دقة الخطوط والتفاصيل، ومزج الألوان وتدرجاتها، مع العلم أن إنجازها غالباً ما يتطلب الفترة الزمنية نفسها التي يحتاجها الفنان لرسم لوحة كبيرة، ولا بل أكثر في كثير من الأحيان. تُستعمل في هذا النوع من الفنون تقنيات كثيرة متنوّعة من حيث المواد والخطوات اللازمة لتطبيقها، فنأخذ على سبيل المثال تقنية «الترقيط» stippling حيث تبدو الخطوط مرقّطة ملوّنة، أو تقنية hatching التي تقوم على الرسم بخطوط متوازية ومتشابكة، أو pointillism أي «التنقيط» فتكون المشاهد المنفذة بواسطتها مؤلفة من آلاف النقاط المتجاورة التي تؤلف خطوطاً واضحة بإمكانها أن تصف التفاصيل الدقيقة بوضوح تام.
أما المواد والأدوات التي درج الفنانون على استعمالها على النسيج، الورق، الحجر، المعدن، الزجاج أو أي مساحة أخرى يعملون على تزيينها، فهي عبارة عن ألوان مائية أو زيتية أو طلاء المينا أو الأكريليك وغيرها، وفرش رفيعة جداً منها المروّسة، ومنها المسطّحة. من أهم فناني الرسم المصغّر نذكر الهولندي Lucas Horenbout الذي عاش بين 1493-1544، وكان الرسام الخاص للملك هنري الثامن، والبريطاني Isaac Oliver (1568-1617) الرسام الخاص بملكة الدانمارك «الملكة آن» ولاحقاً للأمير هنري وأعضاء البلاط الملكي البريطاني. ومن أهم الأسماء أيضاً الفرنسي Maximilian Luce الذي عاش في القرن التاسع عشر وعُرف بنزعته الفنية الحديثة، والألماني Vincent Van Gogh من القرن التاسع عشر، والذي كان لأعماله تأثير بارز وطويل المدى على أعمال الفنانين الذين أتوا من بعده.
وفي عالم صناعة الوقت، بدأت ساعات الجيب المصنوعة من الذهب، ذات الموانئ المزينة بالرسومات المصغّرة، والمنفذة بطلاء المينا بالظهور منذ القرن السابع عشر، وكان يتم ارتداؤها كقلادة في الكثير من الأحيان، ومن هنا برزت أهمية زخرفتها لتكون بمثابة قطعة زينة نفيسة ترافق الأزياء الفاخرة. وبالرغم من ندرة فناني الطلاء المحترفين اليوم، لم يغب هذا الفن عن مجموعات البعض من الدور المنتجة للساعات الراقية التي تطلق منها إصدارات محدودة أحياناً، بينما تكشف بعض الدور عن مجموعات خاصة تغنيها بموانئ مطلية بالمينا، تستمد خطوطها من مواضيع معينة أو مشاهد للأزهار أو الحيوانات أو تلقي التحية على إحدى الشخصيات.
من هذه الدور Vacheron Constantin التي تتابع إصدار ساعات مجموعتها Métiers d’Arts التي تتناول من خلالها مواضيع متنوّعة بين الأزهار، عالم الرقص، الأبراج الفلكية الصينية، وغيرها… تختلف هذه النماذج من حيث تقنيات الطلاء والزخرفة ولكنها تلتقي على الحرفية والإبداع والفرادة. وبدورها Van Cleef & Arpels تتقن الرسم على موانئ ساعاتها، فنشير على سبيل المثال إلى مجموعة Charms Extraordinaire التي تتضمن إصدارات محدودة لنماذج تحتفل الدار من خلالها بالمشاهد الخلابة من الطبيعة والقصص الخيالية وغير ذلك من المواضيع التي تغوص بها لتضيء على جوانبها البراقة. ولعل Bovet هي من أكثر الدور شغفاً باللوحات الصغيرة التي تزيّن الساعات، فتقدّمها على موانئ من عرق اللؤلؤ لتلقي من خلالها التحية ساعات الجيب المزخرفة التي كانت تُصنع في القرن التاسع عشر خصيصاً لأباطرة الصين.
ودار Patek Philippe أيضاً تنتج ساعات مزيّنة الوجوه بحرفية تامة، نذكر منها مثلاً ساعة الجيب الفريدة الإصدار Dawn on the Lake بمينائها المستوحى من رسومات لخمسة من فناني الرسم المصغّر، بينما تلقي الجهة الخلفية منها التحية على لوحة Morning off Cologny للرسام السويسري Louis Baudit، هذه اللوحة التي يملكها الرئيس الفخري للدار Philippe Stern من ضمن مجموعته الفنية الخاصة.
الرسم المصغّر هو أحد الفنون القديمة، المتجددة دوماً، لا يحتاج فنانوه لمساحات ضخمة للتعبير عن مواهبهم وإبداعها، لا بل يمكنهم إدهاش الناظرين من خلال رسوم دقيقة تقاس بالميلليمترات، لا تتجاوز مساحتها ميناء ساعة متمركزة على المعصم.