استطاع Walter Lange أن يعيش حياة غير اعتيادية إن على المستوى الشخصي أو العملي، وساهم في إعادة إحدى أهم الدور الصانعة للساعات إلى الحياة. سوف نفتقده كثيراً.
إذا أراد أي مؤلف أن يكتب قصة يتناول فيها كل الأحداث العاصفة التي اجتاحت أوروبا خلال القرن العشرين، من الحروب إلى الأزمات المالية والإقتصادية، إلى التفكك السياسي والإحتلالات، الشيوعية وإعادة توحيد ألمانيا، يمكنه اعتماد مراحل قصة حياة Walter Lange كأحد أهم المراجع الزمنية الأساسية.
أما إذا أراد أن يكون بطل الرواية رجل ذو كرامة ومتمسك بشرفه بشدة تامة، وهو مع ذلك متواضع، يتمتع بروح مرحة جداً، ويحب الإستماع إلى النكات. ومن كانت له فرصة التعرف إليه يعلم أن هذا الرجل، حتى بعد عمر التسعين، في الأجواء المرحة كانت ترتسم على وجهه ابتسامات مشرقة، تجعله يبدو وكأنه صبي في مقتبل العمر.
إذا نظرنا إلى تتابع الأحداث التي ذكرناها آنفاً، نرى أنها كانت من الممكن أن تتسبب بانتهاء مسيرة Lange في عالم صناعة الساعات. ولكن هذه الأسباب بحد ذاتها، بالإضافة إلى التصميم الذي كان يتمتع به Walter Lange، والدعم الذي لاقاه من الأشخاص المقربين إليه والأساسيين في حياته، كل هذه العوامل مجتمعة أدت إلى وصول A.Lange & Söhne إلى الحالة التي نعرفها بها اليوم.
في العام 1845، قام الجد الأكبر لـ Walter Lange وهو كان ساعاتياً شاباً على علاقة طيبة بالبلاط الملكي الساكسوني، بافتتاح متجر للساعات في Glashütte. بعد فترة وجيزة، أتى عدد من الساعاتيين الموهوبين إلى القرية أيضاً، مثل Julius AssmannوAdolf Schneider و Carl MoritzGrossmann العقود الزمنية الأربعة التي تلت ذلك كانت بمثابة فترة ذهبية لمهنة صناعة الساعات في Glashütte، وبالنسبة إلى شركة Lange، المعروفة اليوم باسم A.Lange & Söhne، وقد كانت في تلك الفترة تحت إدارة إبنيّ المؤسِّس Richard وEmil.
ولكن الحرب العالمية الأولى كانت بمثابة بداية النهاية: فهي قد تسببت بأزمة إقتصادية أصابت ألمانيا بالشلل لمدة 20 عاماً، لتظهر بعدها ساعات المعصم التي جعلت ساعات الجيب التي كانت تنتجها Lange وكأنها لم تعد مرغوبة جداً وكأنها “خارجة عن الموضوع”.
بعد ذلك أتت الحرب العالمية الثانية. في تلك الأثناء كان Walter Lange ساعاتياً ناشئاً في عمر المراهقة، اضطر لأن يلتحق بصفوف الجيش في العام 1942، كما أن الشركة التي كانت تملكها عائلته أجبِرت بأن تعمل أيضاً لصالح القوات المسلحة، وأن تنتج الساعات الخاصة بالطيارين العسكريين، أي ما يُعرف اليوم باسم B-Uhr. أصيب Lange مرتين خلال هذه الحرب ولكنه نجا وعاد إلى منزله في Glashütte في السابع من مايو 1945، وفي اليوم التالي تلقى المبنى الخاص بشركة A. Lange & Söhne ضربة مباشرة واحترق تماماً، والمفارقة أنه وبعد ذلك ببضع ساعات أعلِنت نهاية الحرب.
خلال فترة الإحتلال الروسي لألمانيا التي تبعت الحرب، كان على عائلة Lange البدء من جديد، من الصفر. ولكن في العام 1948 قررت السلطات الروسية الإستيلاء على جميع الممتلكات في Glashütte ومصادرتها، فتم دمج A. Lange & Söhne .
مع جميع الشركات الأخرى الصانعة للساعات ضمن ما سُمِّي وقتها VEB Glashütte Uhrenbetrieb. إضافة إلى ذلك، مورست على الشعب الألماني ضغوط قاسية، وأجبِروا على الإنضمام إلى الحزب الإشتراكي الموحّد، أما الذين يرفضون ذلك فكانوا يُعاقَبون بإرسالهم إلى مناجم الأورانيوم.
في هذه الأثناء، قرر Walter Lange الهجرة إلى مدينة Pforzheim والعيش بسلام وهدوء، وهناك كان يصنع «ساعات عادية… لا شيء خارج عن المألوف» بحسب تعبيره. في نوفمبر من العام 1989، في الفترة التي اقترب فيها Walter Lange من عمر التقاعد، حصل ما كان منتَظراً: هُدم جدار برلين، وانتهت فترة الحكم السوفياتي على ما كان يُسمى بألمانيا الشرقية. «كان ذلك لا يُصَدَّق» قال خلال مقابلتي إياه منذ خمس سنوات: «خلال كل السنوات التي سبقت ذلك، لم أكن أتصوّر أن إعادة توحيد ألمانيا سوف تحدث يوماً».
هنا بدأ يحلم، يقول: «بالنسبة إلي، لا يمكن لدار Lange أن تكون خارج Glashütte، ولا يمكن لهذه الأخيرة أن تتخلى عن Lange. وعندما عادت ألمانيا واحدة، أول ما خطر في بالي كان إعادة الدار إلى الحياة، ولكن هل يجب البدء من جديد؟ وهل الأمر بهذه السهولة؟»
منذ العام 1976، كان Walter Lange يزور عائلته التي كانت ما تزال تسكن في Glashütte بين الحين والآخر، فحمل معه من زياراته هذه عدداً من الوثائق المهمة التي تتناول تقنيات صناعة ساعات A. Lange & Söhne التاريخية، إيماناً منه أن هذه الوثائق من الممكن أن تكون منطَلَقاَ لتأسيس عمل الدار من جديد.
في الوقت نفسه، كان Günter Blümlein الرئيس والمخطِّط لشركة Les Manufactures Horlogères، (وهي الشركة الأم لكل من Jaeger-LeCoultre وIWC Schaffhausen) يفكر بالطريقة نفسها ويعلم أن صناعة الساعات الألمانية مركزها Glashütte وأن A. Lange & Söhne هي الدار الرائدة في هذا المجال، وكان يعلم أن أحد أفراد عائلة Lange ما زال موجوداً، فخطط للقائه.
البداية لم تكن سهلة، فالإسم هو كل ما كان موجوداً، لا تصاميم أو مواد أو آليات أو تجهيزات، ولا حتى موظفين. إضافة إلى ذلك، واجه Blümlein وLange الكثير من الصعوبات التي فرضتها عليهما هيئة الخصخصة في المدينة، فلم يستطيعا استرداد المبنى الذي كانت تقع فيه مكاتب العائلة لذلك اضطرا إلى استئجار مبنى آخر في المدينة.
منذ لقائهما الأول، اتفق الرجلان على أن نجاح A. Lange & Söhne بانطلاقتها الجديدة لا يقتصر على الساعات ذات الجودة العالية، بل يجب على هذه الإنتاجات أن تُصنع بحسب المعايير والتقاليد الخاصة بغلاشوتيه، وأن تكون لها شخصيتها الخاصة في الوقت عينه.
في أوكتوبر 1994، عرضت الدار النماذج الأربعة الأولى من ساعاتها الجديدة، ففاجأت ساعة Lange 1 الجمهور بتصميمها المميز، بموانئها اللامركزية، ونافذة التاريخ الضخمة التي لم تكن مألوفة في تلك الفترة، وقد تم استنساخها كثيراً بعد ذلك. كما أن ساعة Tourbillon Pour le Mérite لم تكتف بآلية التوربيون العادية، ولكنها جمعتها مع آلية الصمام والسلسلة fusée-and-chain للمرة الأولى أيضاً.
لاعتبارات عدة، يمكننا القول أن العام 1994 شهد عودة الحياة إلى صناعة الساعات الألمانية، لأن العديد من الدور عادت إلى نشاطها بعد A. Lange & Söhne التي انتقلت من نجاح إلى آخر، لتنضم إلى مجموعة Richemont في العام 2000.
بقي Walter Lange ملتزماً بعمل الدار حتى نهاية حياته، وهو كان خير سفير ليس فقط لدار الساعات التي تحمل اسم عائلته، بل أيضاً لصناعة الساعات الألمانية، لا بل لكامل قطاع صناعة الساعات. وفي العام 2015، مع بلوغه الـ 91 من العمر، كُرِّم مرتين: الأولى عندما تم تدشين المبنى الجديد لمشاغل الدار، بحضور ومشاركة مستشارة الدولة الألمانية Angela Merkel، والمرة الثانية حين تم منحه وسام الشرف من الدرجة الأولى من قبل الدولة الألمانية.
هذه التكريمات هي مُستَحَقة من دون أدنى شك. وهذا الرجل العظيم والمتواضع كان يقول أنه لم يكن ليستطيع إنجاز كل ما قام به من دون جهود الأشخاص الذين كانوا متواجدين معه، وبالأخص Günter Blümlein، الذي يؤكد بدوره أن لا شيء كان من الممكن أن يتحقق لولا Walter Lange.
إعداد: ساندرا ليين
مجلة عالم الساعات والمجوهرات العدد 115