إن لقاء Buzan Fukushima الفنان الذي يقف وراء تصميم وتنفيذ موانئ المجموعة الخاصة من الساعات الشديدة الرقة Slim d’Hermès الخلابة المصنوعة من الخزف أي «البورسلين» والمزخرفة بتقنية aka-e، هو لأمر مثير بالنسبة إلينا، وينم عن تواضع وبساطة ذلك الفنان الذي يُعتبر أمثاله اليوم نادري الوجود.
شكل سباق Koma Kurabe Uma موعداً ربيعياً سنوياً، تتوافد الحشود إلى معبد Kamigamo في العاصمة الأمبراطورية القديمة Kyoto لحضوره كل عام منذ سنة 1093، أي ما يقارب الألفية. هو حدث استعراضي، ملؤه الحياة والألوان، الحركة والأصوات: الفرسان يرتدون أزياء Bugaku التقليدية، أصواتهم وأصوات سياطهم ترعد لبثّ الحماس في الأجواء، إضافة إلى مشهد العشب والغبار المتطاير من قوة ارتطام حوافر الخيول وهي تعدو أزواجاً على مسار السباق الذي يبلغ طوله 200 متر.
أما الجلوس مع الفنان المعلم Buzan Fukushima وتأمله وهو يترجم ذلك الحدث الضخم على قرص صغير من «البورسلين» الأبيض، فهو أمر مختلف تماماً. سكون عميق يخيّم على المكان، وهو يبدو هادئاً، كليّ التركيز على عمله. بين الضربة والأخرى لريشته الرفيعة، يتوقّف ليضع المزيد من المعجون الأحمر على لوحة مزج الألوان، يطحنه ويضيف إليه بضع قطرات من الماء، يغمس الريشة فيه، ويتابع الرسم على الميناء الخزفي. كان شديد التركيز لدرجة أنني دُهشت لقدرته على العمل ومحاورتي في الوقت عينه، بمزيج من اليابانية والإنكليزية والفرنسية، وبالطبع مع مساعدة قيّمة من المترجم.
هذه الأقراص سوف تصبح موانئ لساعات Slim d’Hermès Koma Kurabe، وهي مجموعة محدودة الإصدار بـ 12 قطعة، وقد تم الإعلان عنها في العام الماضي (والجدير بالذكر أن Buzan سوف يقوم بتنفيذ مجموعة أخرى للدار تحت عنوان La Femme aux Semelles de Vent مؤلفة أيضاُ من 12 قطعة). لإنجاز موانئ Hermès على أحسن وجه، يستعين المعلم بتقنية ukiyo-e
ي «الصورة العائمة» التي تم تطويرها في القرن الثامن عشر كأسلوب رسم على الخشب، وأصبحت معروفة جداً بفضل المشاهد الطبيعية الخلابة التي نُفِّذت بواسطتها، إلى جانب اللوحات التي تجسّد الملوك والحكام في تلك الحقبة.
المعروف أن اللون الأحمر يحمل الكثير من المعاني والدلالات في الثقافة اليابانية منذ القدم، فكان يُعتبر مقدّساً فتُلوَّن به بوابات الأضرحة المقدسة على سبيل المثال، أما تقنية aka-e التي تعني «الطلاء بالأحمر» على البورسلين فقد تم تطويرها في أربعينيات القرن السابع عشر، لتصبح أكثر شعبية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وكانت معروفة في الغرب باسم Imari تيمّناً بالميناء البحري الذي كان يتم من خلاله تصدير البورسلين من اليابان إلى أنحاء أوروبا.
إن الصباغ الأحمر يتألف عملياً من مادة أوكسيد الحديد، عندما يتم طحن هذه المادة تتعرّض جزيئياتها للهواء فتتأكسد وتتحوّل حمراء، وبالتالي فإنك كلما طحنتها أكثر، كلما ازداد عدد الجزيئيات المعرضة للهواء، وكلما ازدادت احمراراً.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه العملية تتطلب وقتاً طويلاً، يقول المعلم Buzan أن الفنانين القدماء كانوا يقومون بطحن هذه المادة لمدة 1000 يوم، كما أن الدقة مطلوبة، فليس اللون هو وحده ما يتغيّر مع مرور الوقت وتكرار عمليات الطحن، بل أن تركيبة اللون هي بدورها تتحول ناعمة جداً كالحرير. وبالفعل، دعاني المعلم إلى تحسس البعض من الصباغ الأحمر الذي يستعمله بين أصابعي، فوجدت ملمسها ناعم كنعومة مساحيق التجميل.
وحان وقت تذويب الصباغ، الماء يجب أن يكون مقطّراً لأن أي رواسب أو أملاح معدنية ممكن أن تؤثر على اللون، والكمية التي تُستعمل محسوبة قطرة بقطرة لتكون ملائمة تماماً من دون نقص أو زيادة، بحسب الكثافة التي يتطلبها كل جزء من اللوحة باختلاف التدرجات من الفاتحة إلى الداكنة.
بابتسامة عريضة، أخبرني المعلم Buzan «إن هذا الصباغ يجف بسرعة فائقة، لذلك فالتحدي الكبير يكمن في المحافظة على إيقاع ثابت في العمل بين تذويب الكمية المناسبة واستعمالها، وذلك يتطلب تركيزاً هائلاً. أنا أستمع إلى الموسيقى الشعبية اليابانية خلال عملي، أحب تلك الأغاني وهي بالفعل تساعدني على التركيز». ويضيف: «من المهم أن يغذي الإنسان روحه بالموسيقى الرائعة، ويحيطها بالأشياء الجميلة والعلاقات الإنسانية الدافئة. هذه الأشياء تساعدني وتجعلني أخلق المزيد من الأعمال الفنية». إن عملية الرسم على كل من الموانئ تتطلب ست ساعات من العمل، يتخللها مرحلتين من «خبز الخزف» أي تعريضه إلى الحرارة المرتفعة (750 درجة مئوية)، إضافة إلى عملية خبز نهائية بعد إتمام الرسم. ومن المؤكد أن درجات الحرارة هذه ممكن أن تعرّض القطعة إلى الخراب، مما يجعل تقنيات الطلاء بالمينا عملاً خطراً، وبحاجة إلى الكثير من «خبرة المعلم» لينجح كلياً.
الصبر والدقة أساس النجاح
«لقد تعلمت أنه في المقام الأول يجب أن أكون صبوراً، وأن لا أفتح الفرن قبل الوقت المحدد». وذلك لأن البورسلين يجب أن يبقى في الفرن بعد انتهاء عملية الخبز لمدة 24 ساعة ليبرد بهدوء تام من دون التعرّض للهواء الذي من الممكن أن يسبب في تشققه أو تكسره أو التوائه. ولكن، إذا تمت العملية كما يلزم، فإن الخزف يصبح أقوى وأصلب بعد خبزه، ويمكننا القول أن الدقة التي تتطلبها هذه العملية، وصعوبة إنجاحها هي السبب في ندرة هذا النوع من الموانئ، ولا يمكننا في هذا الإطار ذكر أي مجموعة أخرى إلا الساعات التي أنتجتها دار Laurent Ferrier عام 2013 بالتعاون مع شركة Meissen العريقة في صناعة البورسلين.
في الثانية والسبعين من عمره، ممكن أن نقول أن المعلم Buzan هو عصاميّ، علم نفسه بنفسه، يقول: «في البداية درست في العديد من الكتب، ولكن بعد ذلك فإن التجارب والخبرة لعبت الدور الأكبر في إتقاني للعمل». ولأنه اعتاد العمل على مساحات واسعة نسبياً كالأطباق وأواني الزينة والمزهريات (التي تزيّن القصور وتجذب مدراء المتاحف وجامعي التحف)، يقول أن التحدي التقني الأصعب كان في تنفيذ الرسومات على مساحة شديدة الصغر كميناء الساعة. وأضف إلى ذلك فرصة العمل مع دار أوروبية راقية مثل Hermès، تتمتع بتاريخ وإرث عريق، والرسم على بورسلين Sèvres الفرنسي الشديد اللماعية، بدل خزف Kutani الياباني. يقول: «إن خزفنا المحلي Kutani هو أكثر امتصاصاً للون من خزف Sèvres، لذلك فإن رسم الخطوط الرفيعة يختلف كلياً بين الإثنين، وذلك بسبب اختلاف الطريقة التي يعلق فيها اللون على الخلفية الخزفية».
إن التعاون بين Buzan Fukushima والدار قد بدأ في العام 2014، عندما كان مدير قسم الإبداع في La Montre Hermès يقوم بزيارة إلى ولاية Ishikawa غرب جزيرة Honshu اليابانية وهي منطقة معروفة بغناها بالأعمال الفنية، فالتقى المعلم واقترح عليه القيام بعمل يجسّد الخيل، وهو أحد رموز الدار.
لا شك أن الفنان أحب الفكرة جداً، وذلك يعود في قسم منه إلى العلاقة الوطيدة بين الخيل والثقافة اليابانية، فقديماً كان اليابنيون ينسبون إليها قدرات روحانية، ويعتقدون أنها الوسيلة التي تنتقل بواسطتها الأرواح إلى العالم الآخر. ومن جهة أخرى، يقول: «إن التقنيات لم تشكل يوماً عائقاً بالنسبة إلي. عندما أضع تصميماً جديداً يكون سهلاً أن أنفذه. التحدي يكمن في إيجاد الإلهام، ووضع الخطوط الأولى للرسم. عندما لا أملك الفكرة الأساسية للتصميم أكون أشبه بالطير داخل القفص».
إن مقابلة فنان بهذا الحجم هو شرف كبير، ومشاهدة ذلك العمل وهو في طور الإنجاز أشعرتني بالسعادة والفخر. ولكن أكثر ما أثر في نفسي هو تواضع ذلك الرجل الذي يقول أنه لم يصل بعد إلى درجة «المعلم»، فهذا الفن هو لامتناهي، ولا يمكننا يوماً بلوغ الكمال فيه، ويضيف «أنا دائماً أفكر، كم من التصاميم والأعمال سأتمكن من إنجازها في الوقت المتبقي لي على هذه الأرض. نحن في اليابان نقول أن كل شيء يبدأ بعد موت الإنسان، إذاً فالمستقبل سيقرر إن كانت أعمالي جيدة أو لا. وكفنان، هل سأعتَبَر «معلماً» في المستقبل؟ أنا أعتقد أن عشرات من السنين ستمر قبل أن يُعرف إن كانت أعمالي سوف تُعتَبَر قيّمة أو لا».