في عالم صناعة الساعات وكما في عالم الأزياء الفاخرة، نحتاج أحياناً إلى قلب المنطق المتعارف عليه رأساً على عقب للوصول إلى النتيجة المرجوة.
إن كل سيدة تحظى بفرصة ارتداء فستان من فئة الـ «هوت كوتور» مصمَّم خصيصاً لها، وكل رجل يلبس بدلة رسمية مصنوعة بحسب طلبه الخاص، يعلم جيداً أن جمال هذه القطعة الفريدة يأتي من الأجزاء الصغيرة التي لا تُرى، وليس من تلك الظاهرة إلى العيان.
فالتميّز في التفاصيل المرئية الخاصة بهذا الزي الفاخر أو ذاك يتأتّى من الدقة في التصميم والتنفيذ، أو من من الطبقات المتجانسة للقماش المطرّز، من الأحجار أو الريش، الأزرار أو النسيج المجدول، من العناصر الجمالية المخبّأة.
فبغية الخروج بقطعة رائعة ومناسبة تماماً للشخص الذي سيرتديها، لا شك أن الاختيارات التي يقوم بها المصمم هي في غاية الأهمية، ولا يقتصر ذلك فقط على المكوّنات المرئية من القطعة كالقماش والأزرار والأشياء التجميلية التي يمكن استعمالها، بل يتعداه إلى التفاصيل الصغيرة التي لا يفكر بها إلا أصحاب الإختصاص، ونحن هنا نعني مثلاً طول القِطَب وحدّتها وقربها من بعض، أنواع الخيوط المناسبة وألوانها، وغير ذلك من التفاصيل الصغيرة التي تجتمع سوياً لتؤدي إلى النتيجة النهائية التي ترضي الزبون، أي أن تكون القطعة مناسبة تماماً لمقاسه، تبرز جمال قامته، ومريحة إلى أبعد حد عند الإرتداء. فالرفاهية الحقيقية تكمن في الإحساس الذي يشعر به مرتدي القطعة، وليس في نظرة الآخرين إليها.
وهذا ما تصفه Laurence Nicolas رئيسة قسم الساعات والمجوهرات في Dior قائلة: «إنها المفارقة الخاصة بعالم الأزياء الراقية.» وفي هذه الدار تتم مقاربة صناعة الساعات الراقية والمجوهرات من المنطلق نفسه، فيمكننا ربط تلك المفارقة بعالمي الوقت والجواهر. وعن تصميم وإنتاج الساعات النسائية تضيف Nicolas: «كان علينا أن نفكر كيف يمكننا تطبيق روحية الدار على هذه الساعات، وأعني بذلك الخطوط الأنثوية، الخفة، والتصاميم المشرقة؟ كيف يمكننا التوفيق بين المجالات الواسعة للإبداع في تصميم الأزياء الأنثوية الأنيقة من ناحية، والحرفية الخاصة بصناعة الساعات السويسرية التي ترتدي طابعاً تقنياً، صناعياً رجالياً جافاً؟» فالتحديات العملية هنا تتمحور حول معضلة التعبير عن الليونة والنعومة من خلال المواد الصلبة الجامدة أي المعادن والأحجار، أضف إلى ذلك المستوى العالي من الدقة التي تتطلبها صناعة آلات الوقت، والقدرة الكبيرة على الإبداع التي يجب أن يتحلى بها الساعاتيون لجعلها تقرأ الوقت بأسلوب فريد، مع الأخذ بعين الإعتبار الحجم الصغير للساعة ومكوّناتها إذا قمنا بمقارنتها مع فستان سهرة على سبيل المثال.
في بداية الألفية الثالثة، كانت Dior واحدة من دور الأزياء الراقية التي بدأت بإنتاج الساعات التي يمكننا وصفها بالناضجة من الناحية التقنية، أي أن ساعاتها لم تعد تقتصر على كونها قطع أكسسوار جميلة فقط، بل أصبحت تجمع بين الناحيتين التقنية والجمالية. لكن ومع إقبال العديد من الدور إلى السير بهذا الإتجاه، برز تساؤل جديد في أذهان فناني الدار حول كيفية التعبير عن هوية الدار وإرثها من خلال صناعة الساعات التي وبالإضافة إلى كونها تحمل الملامح الفريدة الخاصة بـ Dior، يجب أن تضيف جديداً إلى القطاع، وأن لا يقتصر هذا الجديد على تزيين الموانئ والعلب بمجسمات فنية وألوان زاهية، بل يجب على هذا الجديد أن يُحدث خضّة إيجابية في عالم صناعة الساعات، ليذكرنا بالخضة التي أحدثتها مجموعة الأزياء الفاخرة الأولى التي حملت توقيع Christian Dior تحت عنوان New Look في العام 1974.
الجواب على هذا التساؤل أتى في الفكرة العبقرية التي حوّلت الميزان التأرجحي الخاص بساعات الدار الأنثوية إلى مساحة للتعبير الفني، ووضعته على الجهة الأمامية ليكون بمثابة الوجه الجميل لقارئة الوقت، ويمكننا القول أن في ذلك مفارقة بحد ذاتها، مبنية على التناقض بين المهمة التقنية الأساسية التي يؤديها الميزان، والدور الفني «المستحدث» الذي منحته الدار إليه. فهذا المكوِّن الذي يتأرجح ليتناغم مع أي حركة يقوم بها معصم حاملته، يمكنه من دون أدنى شك أن يضيف حياة وخفة إلى ملامح الساعة ويجعلها تنبض بالحركة بأسلوب لا يمكننا رؤيته في أي ميناء ساكن.
باختصار، إن الميزان قد تمكن بهذه الطريقة من تجسيد، ولو بأسلوب مجازي، فساتين السهرة الموقّعة باسم Dior، وما الرمز الأقرب إلى هوية الدار من فساتينها؟ فمؤسسها الذي استطاع أن يمنح الأناقة أبلغ وصف بكلمات معدودة قال يوماً: «إن فستان السهرة يجب أن يكون فستان أحلامك، ويجب أن يجعلك تبدين وكأنك آتية من دنيا الأحلام. برأيي هو يوازي الزي الرسمي في خزانة السيدة، كما أنه وجوده يرفع من معنوياتها.»
ولإنتاج هذه الساعات المميزة، توجّهت Laurence Nicolas إلى شركة Soprod الصانعة للآليات، والتي قامت بتطوير كاليبر Dior Inversé، المبني على الميزان التأرجحي المقلوب، وهو نظام من اختراع الساعاتي المستقل Frédérique Jouvenot الذي أطلقه للمرة الأولى عام 2009 من خلال ساعته التصوّرية Automatic Chronograph Evolution-ACE.
«إذا رأيت الأثواب التي كانت مصدر الإيحاء لهذا الكاليبر، يمكنك وصف عملنا بالجنوني، فهي فساتين واسعة، خفيفة، مؤلفة من طبقات عدة، وعليك أن تجسدي ذلك من خلال المواد الصلبة.» تقول Nicolas وتتابع: «إن ردة الفعل الأولية للساعاتيين الذين قصدتهم بهذا الغرض كانت أن صناعة كاليبر من هذا النوع هي شبه مستحيلة، ولكنني أصرّيت على أن الفكرة تستحق المحاولة. فصانعو الساعات هم حريصون جداً على تقاليد المهنة، بينما نحن المصممون نميل أكثر نحو الأفكار الخلاقة الجديدة، لذلك أصريت على فكرتي وكانت مهمتي دفعهم وتشجيعهم لتصميم وتنفيذ الآلية المقلوبة، وها هم اليوم يتحمّسون لصناعة المزيد من هذه الآليات، والدخول كل مرة في تحدٍّ جديد.»
في معرض بازل للعام 2011، وبعد سنة ونصف من العمل على تطوير هذه الآلية، كشفت الدار عن مجموعة Dior VIII Grand Bal التي تضمّنت خمسة موديلات من الساعات المزوّدة بالكاليبر Dior Inversé، أتت أربعة منها بميزان مفرّغ بطرق تجسّد حركة الأقمشة المتنوّعة بين الأورغانزا، النسيج المرقط، المطرّز أو الدانتيل، بينما تم تطعيم ميزان النموذج الخامس بعرق اللؤلؤ ليبدو كالقماش الذي يتدلى على شكل ثنيات.
ولكن Laurence أرادت أن تذهب أبعد من ذلك من خلال استعمال مواد لم تكن مألوفة في القطاع، وبشكل خاص في مجال صناعة مكوّنات الآلية الميكانيكية، فبدأت باستعمال الريش «هذه الفكرة الرائعة التي أتتنا من الأستديو الخاص بنا في باريس. فالريش يشكل أحد المواد الأقدم في عالم الموضة وتصميم الأزياء، وقد استعملته الدار على مدى سنوات طويلة». الهدف لم يكن تزيين الميزان التأرجحي بالريش، بل صناعته من الريش، وتضيف Nicolas بحماس: «الفكرة كانت تقوم على استبدال الدوّار rotor الثقيل الوزن، بالريشات التي تُعتبر أخف المواد وزناً، ولقد وجدت إثارة في هذا التناقض.»
ولكن الساعاتيين في سويسرا كانوا بالتأكيد أقل حماسة مني، واعتبروا أن ذلك مزحة كبرى، والفكرة جنونية غير قابلة للتطبيق. «من
جهتي، كان همي الأكبر هو إيجاد الريشات المناسبة لهذا العمل، وبعد بحث مضنٍ لمدة سنتين، وقع اختياري على ديك من شمالي إيطاليا، يتمتع بريشات مناسبة من حيث الشفافية والحجم والوزن.»
بعد ذلك، تعاونت Nicolas مع إحدى أهم فناني قماش الدانتيل التقليدي في فرنسا لصناعة الدوّار الخاص بساعة Grand Bal Fil de Soie مستعينة بالخيوط الحريرية وهي الأقرب إلى قلب Christian Dior، وقد أتى الميزان التأرجحي على شكل تنورة مع أطراف مرصعة بالماس، لتتبعها ساعة Grand Bal Fil d’Or التي اتُبِعت لإنتاجها نفس التقنية، ولكن هذه المرة تم استعمال خيط من الذهب طوله متر ونصف، وهو رفيع يوازي شعرة الرأس البشري من حيث السماكة. ومن ناحية أخرى، تم تعديل النموذج الذي يحتوي دواراً من عرق اللؤلؤ، فصيغ هذا الدوار على شكل شفرات رفيعة تلتقي في نقطة وسطية لتشبه شعاعات الشمس. ذلك إضافة إلى العديد من النماذج الأخرى التي صيغ الميزان التأرجحي فيها من الذهب المرصع بأحجار كريمة، أو من مواد غير مألوفة كجناح الخنفساء في ساعة Grand Bal Envol على سبيل المثال.
من الواضح أن كل دوار من المذكورين أعلاه يأتي بوزن مختلف باختلاف المادة التي استُعملت لصناعته، ولكن المعروف أن وزن الدوار مهم من حيث تحديد فاعليته ودوره في عملية تعبئة الآلية بالطاقة، ويجب أن تكون الدوارات متساوية من حيث الوزن في جميع القطع التي تعمل بواسطة الكاليبر نفسه لضمان دقة عمل الساعة.
«في بعض الحالات، مثل Grand Bal Résille يكون الدوار مفرّغاً بنسبة 90%، كما في أحيان أخرى علينا حساب وزن الأحجار الكريمة التي تزيّن الدوار، إذاً فهناك تحدٍّ دائم في هذا الموضوع» تقول Nicolas، وتضيف «يجب علينا في الكثير من الأحيان أن نكون خلاقين في إيجاد الحل لهذه المعضلة.» وهذه الحلول تمثلت مثلاً بترصيع أطراف دوار ساعة Grand Bal Drapé بحبات صغيرة من الماس لزيادة وزنه، كما وبإضافة طبقة رفيعة مفرّغة من مادة الـ tungsten وتخبئتها خلف دوّار Grand Bal Fil d’Or.
هناك الكثير من المجهود الذي يُبذل لإنتاج هذه الأعمال الفنية وإن كانت تظهر للعيان وكأنها بسيطة، فالأناقة الحقيقية لهذه الساعات تنتج عن التفاصيل غير المرئية، ما يعيدنا إلى المفارقة الخاصة بصناعة الأزياء الفاخرة.
ويعيدنا ذلك إلى ما كتبه Monsieur Dior في كتابه The Little Dictionary of Fashion عام 1954: «كقاعدة أساسية، إن الأجزاء التي لا تظهر، أو تظهر قليلاً في الزي الفاخر يجب أن تكون مصنوعة من مواد توازي الأجزاء الظاهرة أو حتى تتخطاها من ناحية الجمال.» لذلك تعمل دار Dior على إخفاء الحلول التقنية التي تتوصل إليها عامة خلال إنتاج ساعات Grand Bal، فالدوار المصنوع من الريش هو بحاجة إلى قاعدة ووزن، لذلك اختبأ وراءه هيكل مصنوع من ضلوع ذهبية. أما ساعة Dior VIII Grand Bal Cancan فقد تم تزويدها بثقل وازن مصنوع من الذهب عيار 22 قيراطاً وقد تم اختياره لأنه يزن أكثر من الذهب عيار 18 قيراطاً، كما وُضعت قاعدة معدنية خلف «المروحة» المصنوعة من عرق اللؤلؤ في ساعة Grand Bal Plissé Soleil لجعل ثنيات الدوار تبدو وكأنها تطفو في الفراغ.
أما الخلاصة فنأخذها أيضاً من كلام Christian Dior: «في عصر الآلات، يبقى تصميم الأزياء أحد الملاذ الأخيرة للإنسان للتعبير عن شخصيته وعن فرادته.» ولو كان Dior ما زال على قيد الحياة لكان تمكن من قول الأمر نفسه عن الساعات الميكانيكية، وبشكل خاص تلك القطع الخلابة المستوحاة من الأزياء الرائعة التي تحمل توقيعه.
إعداد: ساندرا ليين | words: sandra lane
Captions:
يمين: دار ديور لموسم ربيع صيف .٢٠١١
فوق: دار ديور لموسم ربيع صيف .٢٠١١
تحت:
فوق: دار ديور لموسم ربيع صيف .٢٠١5
تحت: إصدار فريد من ساعات “بِلّ أوف دي بول” من مجموعة ديور VIII غران بال.
Dior VIII Grand Bal Belles of the ball.
تحت: “بلوم إيه ناكر” من مجموعة ديور VIII غران بال.
Dior VIII Grand Bal Plumes et Nacre.
دار ديور لموسم ربيع صيف .٢٠١5