شهد العام 1886 أحداثاً مهمة على مستويات مختلفة، فقد تم خلاله افتتاح تمثال الحرية في الولايات المتحدة الأميركية، عُرِف مشروب كوكا كولا، وأطلقت Mercedes Benz السيارة الميكانيكية الأولى. أما في مجال صناعة المجوهرات، فقد أبهر الجمهور تصميم جديد بالكامل للخواتم الماسية، هو خاتم Tiffany Setting.
في قفزة نوعية أحدثت تغييراً ملحوظاً على القواعد المعتَمَدة في القطاع، قام الأميركي Charles Lewis Tiffany بتصميم قاعدة مؤلفة من ستة ركائز عمودية من الذهب، مهمتها رفع الحجر الماسي المستدير القطع عن الخاتم، ضمّه بأمان ولكن بأسلوب يمنحه القدرة على عرض قسم أكبر من مساحته، وبالتالي عكس الأنوار أكثر. هذه التقنية البسيطة استطاعت أن تزيد من لماعية حجر الماس، وتجعله يبرق بقوة، كما لم يفعل من قبل.
فحتى تلك الحقبة، كان يتم ترصيع الماس على الخاتم مباشرة فلا يظهر منه إلا المساحة العليا، أما تلك النتوءات القادرة على إبراز الماسة وبريقها، فلم تكن معروفة أبداً.
«لم تكن تلك «المخالب المفتوحة» معروفة من قبل» بحسب Jean Ghika، مديرة قسم مزادات Bonhams للمجوهرات في المملكة المتحدة وأوروبا، والتي تمتلك رؤية واضحة إلى صياغة المجوهرات عبر تاريخ. وتضيف: «إذا رجعنا بالزمن 100 عام أو أكثر، أغلب الأحجار كانت مغطاة من الناحية الخلفية، بطريقة لا تسمح للنور بأن يمر من خلالها. فأتى تصميم Tiffany Setting ليرفع الحجر عن القاعدة، يسمح للإشعاعات بأن تمر من خلفه، فيشع الحجر بكل ما أوتي من بريق.»
لم يخطر على بال الكثيرين أن تصميم Charles Lewis Tiffany قد ينتشر ليصبح النموذج الأساسي لخواتم الخطبة حول العالم، وأن يقوم أكثر المصممين والدور باعتماده للموديلات التي سيقدومنها لجمهورهم. ولكن هذا التصميم قد وجد سبيله إلى القلوب، وتمت الإشارة إليه في الموسيقى والأدب، والإستعانة به في مشاهد التقدّم للزواج في الأفلام الرومانسية.
«هو ليس كلاسيكياً، بل أيقونياً» هكذا يصفه Renaud Pretet المدير التنفيذي للدار في الشرق الأوسط، الهند، تركيا وأفريقيا. والحقيقة أن هذا التصميم أصبح فعلاً أيقونياً، وقد تم تخليده مؤخراً أيضاً من خلال أحد الرموز التعبيرية emoji المعتمدة على شبكات التواصل الإجتماعي.
وعلى الرغم من أنه وفي الواقع يرمز حصرياً إلى التصميم الأصلي للدار المؤلف من ستة مخالب لاقطة للحجر، إلا أن “Tiffany Setting” أصبح اليوم يستعمل كمصطلح عام، يشير إلى أي خاتم سوليتير يُحمَل فيه حجر الماس على قاعدة مؤلفة من ركائز على شكل مخالب، بغض النظر عن الدار المنتجة له، وهو بلا شك التصميم الأكثر قرباً إلى قلوب الشباب. وعن هذا يقول Tomasz Dziwura، أحد فناني الترصيع في مشغل Tiffany & Co. الواقع ضمن مركزها في نيويورك: «إن خاتم
Tiffany Setting أصبح رمزاً للخطوبة، وهو الأشهر عالمياً.»
والدليل على ذلك أن الدار ما زالت تنتج الخاتم نفسه بعد 130 عاماً على إطلاقه، وهي تُعتبر رائدة في مجال خواتم الخطوبة، وهذه الخواتم تشكل ما نسبته 25% من المعدل العام لأعمالها.
ومن الطبيعي هنا أن ترد إلى بالنا تساؤلات حول سبب ظهور هذا الخاتم في تلك الحقبة بالذات، وعن نجاحه السريع وانتشاره بالرغم من كونه لا يتطابق مع الأذواق والتقاليد السائدة.
تقول Ghika «إن إطلاق هذا التصميم تزامن مع تزايد أهمية الماس، وذلك في فترة كان الناس فيها مبهورون بالجواهر والأحجار الكريمة. ففي سبعينيات القرن التاسع عشر، تم اكتشاف كميات ضخمة من الماس في أفريقيا الجنوبية مما جعل هذا الحجر متوفّراً بكمية أكبر.» وتضيف: «أعتقد أن الناس يُفتَنون بالماس، يحبّون التأثير الضوئي الذي تُحدثه هذه الأحجار، وتصميم Tiffany Setting يُظهر هذا التأثير بأجمل صورة». وذلك موازٍ للأسلوب الذي تعاطت من خلاله دار Harry Winston مع الماس في مرحلة لاحقة، فجعلته «نجم» إصداراتها، ولكن Tiffany اتخذت لنفسها هذا التوجه منذ ثمانينيات القرن الماضي. فمؤسس الدار Charles Lewis Tiffany الذي أطلقها عام 1837 وهو بعمر الـ 25 عاماً بالشراكة مع صديقه
John B Young، وكانت تحت عنوان Tiffany & Young، استطاع أن يثير إعجاب الجمهور بمقاربته الجديدة من نوعها في تلك الفترة. كما لو كان ذلك تعبيراً عن ردة فعل على مفهوم الثراء المتكلف الذي كان يسيطر على ما كان يُسمّى بالعالم القديم The Old World، فأتى أسلوب Tiffany جريئاً، متجهاً أكثر نحو العالمية، بوهجه الناتج عن الرفاهية المصممة بروح حرّة مستقلة عن التقاليد، قادرة على إثارة الإعجاب من دون جهد يُذكر. ويمكننا القول أن هذا التصميم قد أتى ليكشف عن الأسلوب الأميركي الفريد للأناقة والفخامة التس توسّع وعرف انتشاراً وشعبية لاحقاً خلال القرن العشرين.
ولوضع ذلك في سياقه الصحيح، تشير Ghika إلى أن تلك الحقبة الزمنية شهدت تطوراً هائلاً في الإقتصاد العالمي مع اكتشاف النفط وتطوّر المكننة وقطاع الصناعة، مما وضع كمية هائلة من الثروات ورؤوس الأموال في المتناول. هذه الفترة يمكن وصفها بالحقبة الذهبية لأميركا، بداية تحوّلها من «مستعمرة» إذا جاز التعبير إلى إحدى أهم القوى العالمية.
«كان هذا زمن الغييرات الجذرية» تشرح Ghika. «وTiffany
Setting كان يتميّز بفكرته الجديدة، فتصميمه العصري كان غاية في البساطة، فيما كان مفهوم العمل الفني في تلك الفترة يقوم على الزخرفة القصوى.» فتعود بنا الذاكرة هنا إلى المفروشات الضخمة والثقيلة الوزن، التطريز واستعمال أقمشة المخمل، والشرّابات التي كنت تجدها أينما أمكن وضها والتزيين بها.
ركائز الجمال الدائم
ولشرح مدى تقدّم هذا التصميم عن عصره، نشير إلى أنه عند ظهوره، لم تكن حركة «الفن الجديد» Art Nouveau معروفة بعد (مع العلم أن Louis Comfort Tiffany إبن Charles Lewis كان أهم المروّجين لهذا الأسلوب في أميركا فيما بعد)، كما أنه عرف الشهرة قبل أكثر من ثلاثة عقود من إطلاق مدرسة Bauhaus لأساسيات «العصرنة» التي لعبت دوراً كبيراً في تحديد مسار الحياة في القرن العشرين. ففي تصريح له، قال مؤسس هذه المدرسة Walter
Gropius: «نحن نريد إنشاء مبنى حقيقياً، خالٍ من كل ما هو «كاذب» ومن كل الزخرفات.» أفلا يذكرنا هذا التصريح بما كان عليه تصميم الخاتم الماسي لدار Tiffany. فكما تشرح Ghika:
«Tiffany كانت سابقة لعصرها، فعملها هذا كان عبارة عن إنذار مبكر للاتجاه نحو تبسيط التصاميم، مما يؤكد على ريادة هذه الدار في مجالها.»
البساطة، الخطوط الواضحة، الاكتفاء فقط بما هو ضروري من دون اللجوء إلى الكثير من الزخرفة، هذه النقاوة المتحدة مع الخبرة والحرفية، هي الجواب الأمثل للتساؤل حول احتفاظ هذا الخاتم الماسي بسحره وشعبيته الواسعة بعد 130 عاماً على إطلاقه. وهذا الكلام ليس مبالغاً به، بل يمكننا اعتباره إنجازاً خارقاً للدار. فإذا ألقينا نظرة على جميع المجالات التي يلعب فيها الفن والتصاميم دوراً مهماً، أي المفروشات، الأزياء، الهندسة، صناعة الآلات والسيارات، وبالطبع صياغة المجوهرات، نجد أن قليلة هي التصاميم التي تحافظ على مثال Tiffany Setting على شعبيتها لهذه الفترة الزمنية الطويلة، وليس ذلك فقط، بل أن هذا التصميم ما زال اليوم وسيبقى إلى ما لانهاية يبدو عصرياً، مناسباً لكل الأمكنة والأزمنة.
وإذا حصرنا نظرنا في عالم المجوهرات فقط، وبشكل أكثر تحديداً في مجال الترصيع الماسي، نجد أن البعض من الفنانين قد حاولوا محاكاة ومنافسة تصميم «المخالب»، فنأخذ على سبيل المثال تقنية
tension setting حيث يبدو الحجر وكأنه يطفو في الهواء مرتكزاً على نقطتي التقاء جانبيتين مع القاعدة، وتقنية cradle setting حيث يوضع الحجر في إطار يشبه «المهد»، ولكن هذه المحاولات لم تستطع أن تأخذ البريق منه، أو أن تضاهيه من حيث الابتكار والديمومة. فبحسب قول Alex Gomez، أحد فناني الترصيع في الدار: «إن تصميم Tiffany Setting هو تصميم عبقري.»
إن هذا التصميم يمنح الحجر القدرة على عكس الأنوار بشكل يجعل بريقه ساحراً، وبشكل خاص أحجار الدار المثالية من حيث النوعية والنقاء. «إن Tiffany Setting هو نجم إنتاجاتنا» يقول Pretet، «وذلك في المقام الأول لأنه تاريخي، فالتصوّر الذي أتى به Charles Lewis
Tiffany قد أعد الطريق لما نعرفه اليوم بخاتم السوليتير الخاص بالخطوبة.» كما يشير إلى نقطتين أخرتين تساهمان في نجاح وديمومة هذا التصميم، الأولى تتعلق بالطريقة الآمنة لتركيز الحجر: «عندما تلبسين خاتم خطوبتك بشكل مستمر، أنت على الأرجح تعرّضينه إلى الكدمات بشكل كبير. من هنا الأفضل أن تكون الماسة مركزة بأمان على ست ركائز بدل الأربعة كما يفعل الكثير من الصائغين الآخرين.» أما النقطة المهمة الثانية فهي تتعلق بجمالية الحجر: «إن تركيز الماسة على 6 مخالب يجعلها تبدو أكبر حجماً عندما تنظرين إليها من فوق، وذلك يعود أولاً إلى تعادل المسافات بين الركائز، وواقع أن الحجر مرفوع عن القاعدة مما يؤمّن ظهور أكبر مساحة ممكنة منه.»
ومن ناحية أخرى، ترى Jean Ghika أن أسلوب القطع
clean-cut ببساطته هو الذي يساهم في محافظة هذا التصميم على مظهره العصري، وذلك برأيها «نقطة قوة لهذا التصميم.» وتأيداً على ذلك، نشير إلى أن هذا الخاتم لم يشهد الكثير من التغيّرات منذ ولادته، وبالإضافة إلى التعديلات القليلة التي أحدثتها الدار عليه على مر الزمن، ستطلق هذه السنة نموذجاً جديداً منه ولكن هذه المرة بالذهب الوردي إلى جانب النماذج البلاتينية التي درجت على صياغتها.
البساطة سيدة الموقف
لا يمكننا التنبؤ حول المعادن أو الأحجار أو الخطوط أو أساليب قطع الماس التي من الممكن أن ترتبط بهذا التصميم التاريخي في المستقبل، كما ومن غير الممكن أن نتوقّع ما إذا كانت إحدى المشاغل أو أحد الصائغين سيطلق تصميماً يوازي Tiffany Setting ابتكاراً وشعبية ودواماً، كما من الصعب أن نتخيّل أي تعديلات جذرية ممكن أن تطرأ على هذا التصميم. وذلك ما يوافق عليه Pretet، فيقول: «أنا لا أظن أن هذه الماسة المستديرة سيتم تجاوزها أو استبدالها بأي أسلوب قطع آخر، طالما ما تزال الماسات اللماعة القطع brilliant-cut هي الأقرب إلى القلوب. إذا تحوّل الجمهور إلى تفضيل الأساليب الأخرى لقطع الماس، قد يكون الأمر مختلفاً. ولكنني أؤمن أن Tiffany Setting سيبقى كما هو وكما كان منذ أكثر من 100 عام.»
من المعروف بين الفنانين والمصممين أن التصاميم البسيطة هي الأصعب في التنفيذ، فمن دون زخرفة وزركشة لا يمكن إخفاء أي إخفاق، وفي التصاميم البسيطة يجب على الخطوط أن تكون مثالية، والانتباه إلى أدق التفاصيل هو من أهم عوامل النجاح. وربما سر نجاح Tiffany Setting يكمن بأنه شيء بسيط إلى أقصى حدود، ومصنوع بأقصى درجات الجودة.