تدخل إلى مقرّ العمل الخاص بالمصمم اللبناني جورج محاسب، فتستقبلك مجسّمات مصغّرة لقطع من الأثاث، يمكن وصفها بأنها أقرب إلى الأعمال الفنية منها إلى المفروشات، ويلاقيك هو مبتسماً مرحباً بحرارة، وكأن صداقة تجمعك به منذ سنوات.
هذا الرجل العملي المتفائل والإيجابي، سرد لنا ببساطة وطبيعية رواية حياته المهنية، عبّر بفرح عن حبّه للطبيعة وعن تعلقه بوطنه الأم لبنان وعن علاقته الوطيدة بالخشب، وأطلعنا على البعض من أفكاره المستقبلية بما يخص العمل، وشاركنا آراءه حول طرق إنجاح العمل ضمن فريق متماسك، وكشف لنا عن هواياته والقليل حول الأوقات التي يمضيها بعيداً عن الناس والعمل.
وُلد جورج محاسب في لبنان، بدأ دراسة الهندسة في جامعة LAU في جبيل، وبعدها انتقل ليكمل تخصصه في واشنطن، ليعود بعد ذلك إلى لبنان ويعاود الرحيل في العام 2005 إلى أوروبا ليتابع دراسته في كلية الفنون الجميلة والحرف والفنون التطبيقية في باريس Boulle School، وبعدها في أكاديمية Domus في ميلانو. ومن خلال هذه المسيرة التعلّمية، أصبح متقناً لأصول وتقنيات العمل بالخشب، كما أن شغفه بالتصميم سمح له بالانتقال إلى التعليم في العديد من الأكاديميات المتخصصة في لبنان وفي الولايات المحدة الأميركية. “لقد ولدت في لبنان، في قرية غوسطا الكسروانية، حيث أمضيت طفولة رائعة. وبالرغم من تحوّلنا اليوم إلى “مواطنين من العالم” بفضل سهولة التنقّل والإتصال في هذه “القرية العالمية” التي نعيش فيها، إلا أنني أشعر أكثر وأكثر بأنني متمسك بجذوري ومتعلق بهذه الأرض. فأنا عدت إلى لبنان ليس لمجرّ> العودة، فهذا البلد تربطني فيه الذكريات، العلاقات العائلية والإنسانية التي لا يمكن أن نجدها بسهولة في الخارج، لقد عدت إلى لبنان لأبقى فيه، وإنني سعيد هنا. حتى إذا كان لبنان والمنطقة يمران في ظروف صعبة، فالمسألة مسألة وقت فقط وفترة زمنية عصيبة. أنا أؤمن بأن المسقبل زاهر ويعد بالكثير”. في بداية حياته الدراسية، اختار جورج الهندسة المعمارية، ولكنه وجد نفسه مهتماً أكثر بالتصميم الداخلي، وبتصميم المفروشات، وهو قد بدأ بذلك منذ أيام الدراسة الجامعية كونه يحب العمل اليدوي، وعمل على تطوير هذا الشغف حتى أصبح في رأس قائمة اهتماماته وأعماله. وها هو اليوم على رأس شركته المخصصة بتصميم وإنتاج المفروشات الفنية Wood &.، يقود زمام الأمور فيها، ويتشارك شغفه مع فريقه الذي لا يقل عنه حماساً والتزاماً بالعمل. ولكن لماذا اخترت الخشب كمادة رئيسية لأعمالك؟ يجيب: “الخشب هو في الأصل مادة حية، تتنفّس، تتمتع بملمسها الخاص كما أنها تتحوّل مع الوقت، وهي موجودة بألوان وأشكال متنوّعة وتستطيع نشر روائحها الزكية في الأماكن التي تتواجد فيها. كل هذه الصفات الرائعة تجعلني أرغب أكثر يوماً بعد يوم باستكشاف كل الأمور التي ما زلت أجهلها عن الخشب، وأسعى إلى الإبتكار أكثر وأكثر”.
تنظر إلى أعمال جورج محاسب، فترى أنها حديثة متطوّرة من ناحية التقنيات المستعملة لتنفيذها، اللمسات الجمالية والخطوط التصميمية، ولكنك تشعر دائماً بنوع من النوستالجيا في هذه التصاميم، لمحات من الأصالة والكثير من الشاعرية. تشعر أن هذه المفروشات العملية يمكن تصنيفها في الوقت عينه قطع زينة للمساحة التي تقبع فيها. فما هي مصادر الإلهام التي تستقي منها هذه التصاميم، يجيب جورج: “تلعب الطبيعة دوراً كبيراً في أعمالي والخطوط التصميمية التي تتبعها. وإلى جانب ذلك، يمكن أن يأتي الإلهام من كل ما يحيط بي، الروائح، المشاهد، الأحداث، الأشخاص الذين ألتقي بهم في الطريق، الموسيقى، الفنون، العلاقات الإنسانية، وغير ذلك من الأمور اليومية التي يمكن أن يجدها البعض عادية، ولكنها طبعاً تحمل إلهامات ورسائل للفنان، وتحرّك عنده الرغبة في التعبير عن نظرته الخاصة إلى هذه الأمور من خلال أعماله”. فعلاً، فأعمال جورج محاسب فيها الكثير من القطع التي تحمل إيحاءات من الطبيعة، مثل مجموعات Avocado أي الطاولات المصنوعة مادتيّ الريزين والنحاس، والتي تأتي على شكل ثمرة الأفوكادو بألوان زاهية متعددة، ومجموعة Abeille التي تضم كراسي وطاولات مستوحاة من قفير النحل، ومجموعة Margueritte الرائعة التي تضم طاولات وأكسسوارات مصنوعة من باقات من أزهار المارغريت المعدنية. ومن أغنية Shoe-shiner المشهورة للفنان الإيطالي Paolo Conte، أتت إلهامات القطعة الفنية Shoe-shine box التي أراد جورج بحسب قوله “نقلها من الرصيف إلى داخل المنزل. فهي من القطع التي تترجم حنيننا إلى الماضي. صحيح أنها “عتيقة” ولكنها تحمل ملامح الأصالة، وقد أصبحت قطعة فاخرة تزيّن زاوية من البيت”. يعتبر جورج أن كل مصمم لديه اتجاهه الخاص، وأسلوبه الذي يميّز أعماله عن غيرها، والخطوط التي تطبع هويته، ومن هذا المنطلق يحافظ على حصرية أعمالعه، وينتجها بمجموعات محدودة الإصدار أو بقطع فريدة من نوعها. ولكن ما الذي يأتي قبلاً، هل تنطلق من الفكرة لتختار المواد التي ستستعملها لتنفيذها، أو أنك تنطلق من المادة وتفكِّر ما الذي يمكن أن تصنعه منها؟ يجيب: “إن العمل ممكن أن يتم بالإتجاهين. ففي بعض الأوقات أجد أن مادة معينة تثير إعجابي، فأبدأ بالتفكير بالأساليب التي يمكنني اعتمادها لمعالجتها بهدف إنتاج قطعة مثيرة للاهتمام. وفي أحيان أخرى أسير بالاتجاه المعاكس، فأنطلق من فكرة تراودني وأبحث عن المواد المناسبة لتنفيذها. في الواقع هذه الأفكار لا تكون منذ البداية واضحة المعالم، بل أنها بحاجة إلى فترة من التفكير والبحث للوصول إلى النتيجة المرجوة”.
وماذا عن الوقت، كيف يغيّر الإتجاهات وطبيعة الحياة؟ وما هو تأثيره على المسيرة العملية؟ هل هو يغيّرنا أو يكشف المزيد من خبايانا، أو يمنحنا المزيد من الخبرة والنضوج؟ في إجابته على هذه التساؤلات يعتبر جورج أن “النضوج يلعب الدور الأكبر في موضوع التغيّرات التي تشهدها حياتنا الشخصية والعملية على حد سواء. فمع مرور الوقت تصبح نظرتنا إلى الأمور المحيطة بنا أكثر شمولية وعمقاً في الوقت عينه، تصبح طريقتنا في معالجة الأمور أكثر خبرة. فالبحث المستمر والإطلاع والانفتاح على الأفكار والإتجاهات الجديدة، إضافة إلى التطوّر التكنولوجي وسهولة الوصول إلى المعلومات وتبادلها، كلها عوامل تساعد في تحقيق النضوج بالنسبة إلى المصمِّم، وهذا النضوج يُترجَم عملياً من خلال أعماله التي تعبّر عن هذه التحوّلات في أسلوب تفكيره وتعبيره الفني”. وعن انتشار أعماله خارج لبنان أخبرنا جورج أن Wood &. تصدّر أعمالها إلى لندن، إسبانيا، الولايات المتحدة وفرنسا، “نحن محظوظون كفاية لنكون على قائمة المصدِّرين إلى هذه الدول، ولكن ذلك في الحقيقة تطلّب الكثير من العمل، حوالي عشرين عاماً (يضحك)، لا بأس إن قلنا أنها عشرين سنة، لأنها في الحقيقة عشرين سنة من الخبرة”. سألناه، هل تعتقد أن القطع التي تحمل توقيعك سوف تصيح من القطع الخالدة التي يتم تناقلها من جيل إلى آخر وبيعها في المزادات؟ فأجاب مبتسماً: “إن الوصول إلى هذه المرحلة بحاجة إلى الكثير من البحث والدراسة والنضوج والعمل الدؤوب. ولكن أنا أتمنى ذلك وأسعى إليه بجدية”. وعن رؤيته للمستقبل قال أنه يرى الكثير من الإيجابيات في السنوات القادمة من الناحية العملية، ومع أن بيروت تُعتبَر من الأسواق الصغيرة الحجم، إلا أنها منطلق مهم لأعمال الكثير من المصممين، وهي مكان يضج بالثقافة والعلم والانفتاح. وبالنسبة إليه، على المصممين اللبنانيين الجدد أن يتمسّكوا بالعمل في بلدهم الأم حتى وإن اضطروا إلى مغادرته مؤقتاً لاكتساب خبرات جديدة ولقاء المصممين العالميين والتدرّب على أيدي المتخصصين، ولكنه يدعوهم إلى الرجوع إلى مدينتهم بيروت وجعلها المكان الذي ينطلقون منه إلى العالم أجمع. والرسالة الأهم التي يتوجّه بها إليهم: “حافظوا على الإيمان في ما تعملون، ولا تستسلموا ابداً”.
لقد تكلمنا كثيراً عن العمل وعن الإلهامات، في وسط هذه الزحمة والانشغالات، هل هناك مكان للهوايات والأوقات الخاصة؟ وما هي هواياتك؟ “في الحقيقة أنا أؤمن أنه من الضروري إيجاد الوقت لإمضائه مع العائلة والأشخاص المقرّبين منا. من ناحية أخرى، أنا أمارس المشي في الطبيعة، السباحة، الركض، أستمع إلى الموسيقى، أقرأ الكتب، وأحاول أن أجد الوقت للاختلاء بنفسي أحياناً والتفكير العميق بما يدور في خلدي، بعيداً عن كل ما يمكن أن يلهيني عن ذلك”.
إعداد: ليزا أبو شقرا
مجلة عالم الساعات والمجوهرات العدد 125