الإبداع لا شكل ولا لون ولا معايير ثابتة له. هو ثمرة مجهود العقل البشري وخلاصة تجاربه، هو ترجمة خاصة جداً للجمال، تحمل بعض الحنين إلى الماضي والكثير من الآمال بالغد.
“أؤمن بأن كل شخص لديه موهبة معينة، ومحظوظ هو الذي يكتشف هذه الموهبة في صغره ويعمل على تطويرها وتقويتها. وأنا أعتقد أنني كنت من هؤلاء المحظوظين الذين اكتشفوا شغفهم في عمر صغير، وأن عائلتي كان لها دور كبير في تشجيعي وتنمية مواهبي”. هو المصمم اللبناني الشاب نايف فرنسيس، الذي حصل في العام 2001 على شهادة في الهندسة الداخلية من جامعة الروح القدس في الكاسليك-لبنان وتوجّه بعدها إلى تطوير مهاراته وأفكاره وخبرته في بلدان المنطقة، ليعود إلى لبنان في العام 2009، وينشئ الأستديو الخاص به الذي يحمل اسمه، وهو متخصص بتصميم الأثاث والأكسسوارات والقطع الفنية، وذلك في العام 2010.
يقول: “عندما بدأت الدراسة والعمل، أي منذ ما يقارب العشرين سنة، كان ذلك بمثابة استجابة لرغبتي في تنفيذ الأفكار الفنية التي كانت تملأ ذهني، ولم أكن أعرف بوضوح إلى أين ممكن أن أصل في هذا المجال، ولا كنت قد حددت الخطة الواضحة لمسيرتي الفنية. ولكن اليوم، أصبحت الخطة جلية، الخطوات متماسكة والأهداف محددة”، ويضيف: “هنا يلعب عامل الوقت دوراً كبيراً، فالزمن برأيي لا يغيّر نفسية الشخص، بل يجعله أكثر نضوجاً وإدراكاً لما يريد أن يبلغ إليه، ويعلمه كيفية السير نحو أهدافه بخطى ثابتة”. برأي نايف أن الشخص يجب أن يسأل نفسه عن الأسباب التي تدفع به لاستثمار طاقاته الذهنية والعملية والمادية في العمل الذي يقوم به، وأن يكون تساؤله الأساسي: “هل هذا ما أريد فعلاً القيام به، أو أنني فقط أمارس هواية أحبها؟” فإرضاء الشغف الفني برأيه مهم، ولكن الأهم هو تحديد الأهداف والسير قدماً باتجاهها. أما عن الوقت الضائع فيقول: “نعم من الممكن أن تؤدي عوامل عديد إلى ضياع فترات قيّمة من الوقت، ممكن أن تكون هذه الأسباب إجتماعية، شخصية، مادية أو متعلقة بسوء الإدارة نوعاً ما. ولكن المهم أن نتعلم الإستفادة من وقتنا واستثماره بشكل مفيد”.
وفي وسط انشغالاتك والضغوط العملية، هل من وقت للعائلة والأصدقاء، للمرح والحياة الإجتماعية؟ يجيب: “نعم، هناك وقت دائماً للقاء الأشخاص المقربين، فأنا أحب أن أمضي وقتاً مع أولاد إخوتي الصغار، ألعب معهم، نبتكر ونخترع الألعاب، أحاول أن أجعلهم يعيشون اللحظات الجميلة التي كانت في طفولتنا حيث كنا نصنع ألعابنا بيدنا، وهم يستمتعون بذلك تماماً كما كنا نحن نفعل”.
في ذلك الأستديو، يستقبلك كرسي Charlie الأحمر المصنوع من لوح معدني واحد تم فقط قصه، تطويعه وتلحيمه ليبدو غير مألوف من حيث الشكل، ولكنه يورد الأسئلة إلى الأذهان حول طريقة التصميم والتنفيذ. إلى جانبه ترى العديد من الأعمال المبتكرة التي تحمل توقيع “نايف فرنسيس”، ومن أكثر ما يلفت الأنظار أيضاً كرسي آخر هو Float Chair الذي يصفه فرنسيس بالنوستالجيا الآتية من مغامرات الطفولة البحرية، كما ويروي لنا نايف بحماس قصة Weave Lamp وهي “الثريا” إذا صح التعبير المصنوعة من القش والخشب، والتي تذكره بالأوقات التي كان يمضيها في منزل جدته خلال طفولته، والتي تطلّب إنتاج القطعة الأولى منها سنة من العمل للوصول إلى النتيجة المرجوة من ناحية الشكل وأسلوب الإضاءة والخيالات والإنعكاسات الضوئية التي تطلقها. كما وأنه يفصح أن عدداً من قطعه مستوحى من ذكريات الحرب اللبنانية التي ما زالت قابعة في عقله الباطن. وعن مصادر الإلهام لأعماله يروي: “ممكن أن تأتي الإيحاءات من أي شيء أراه ويلفت انتباهي، فأسعى إلى ابتكار ترجمة جديدة لهذا الغرض، وتقديمه بأسلوب حديث لا يشبه غيره. ومثال على ذلك الـ Pins وهي أدوات تُثبَّت على الجدار، تُستعمَل لتعليق الثياب، وقد استوحيتها من الألواح الخشبية القديمة التي كانت تُدَق فيها المسامير وتُستعمل لنفس الغرض. وهكذا تأتي الأفكار من الذكريات في الكثير من الأحيان، فالإنسان بطبعه يحن إلى طفولته أو إلى مرحلة أو لحظات معينة من الممكن أن ترافقه طول حياته، وأن تلهمه للخروج بقطع تحمل بصمته وملامح خاصة من مسيرة حياته”.
يوظّف نايف فرنسيس كامل ذكائه وجديته لتكون قطعه عملية ومفيدة، ولا تشبه غيرها من الأعمال في الوقت عينه، كما ويحرص منذ بدايات التصميم على جعل عملية نقل الأغراض سهلة، لا تعرّضها للتلف على أن تصل هذه القطع إلى الزبون سليمة، تحتاج فقط إلى عملية فتح أو تركيب بسيطة، مع العلم “أن إنتاج القطع القابلة للفك والتركيب يكون عادة أكثر تعقيداً وكلفة من إنتاج القطع التي تصل “جاهزة للاستعمال” إلى الزبائن، وذلك لأننا نضطر إلى الإهتمام بالأجزاء القابلة للفك بشكل خاص، وبالمواد المستعملة لضمان متانة القطع عند فكها وتركيبها ونقلها لمرات عديدة. ولكن هذه الطريقة في الإنتاج هي أقل كلفة من ناحية الشحن بالنسبة إلى الزبائن، لأن طريقة التغليف تجعل من الطرد أصغر حجماً، وأسهل في النقل”. وعند سؤاله عن الخصائص التي تتميّز بها القطع التي تحمل توقيعه كان الجواب: “ربما طريقة التصنيع والتغليف التي كلمتك عنها للتو، ولكن أيضاً هناك عوامل أخرى. فأنا أحرص على تقديم قطع مبتكرة تجعل الناظر إليها يطرح ألف سؤال عن طريقة تصنيعها. أقول وأنا مقتنع تماماً أنني لا أسعى إلى خلق القطع التي يراها الجميع جميلة وخلابة، بل تلك المدهشة ببساطتها، والمريحة في الإستعمال. وأيضاً أحرص على المحافظة على المواد التي أستعملها على حالتها الأساسية، فعلى سبيل المثال الخشب يبدو كما هو بشكله الأصلي، والجلد يحافظ على خطوطه وثنياته الطبيعية”.
يلتزم بالألوان الترابية الطبيعية، ولكن لا يخلو الأمر من القليل من التميّز عندما تكون القطعة ذات تصميم شذيذ العصرية، مثل Charlie Chair الحمراء الزاهية. يصرّح أنه لا يلتزم أبداً بتوجهات الموضة بما يخص مجال عمله، ولكنه يبتكر التوجهات الخاصة لأعماله، ويا لها من أعمال..! ففي وسط غرفة المعيشة بإمكانه أن يعلق لك أرجوحة مصنوعة من الخشب والجلد والسلاسل المعدنية التي تذكرك بألعاب الطفولة، وإذا أراد أن ينتج مرآة، فهي تكون نافرة من الجدار، متعددة الوجوه، كما يمكنه أن يجعل مكتبتك تدور، وطاولة القهوة في غرفة الجلوس متعددة الفروع. واللائحة تطول إذا أردنا تعداد قطع نايف فرنسيس التي تتميز بتصميمها الذكي، الأنيق واللامألوف في آن معاً.
في عينيّ هذا المصمم الشاب ترى طموحاً لا محدود، ولكنه في الوقت نفسه لا يشرد عن الواقعية في حديثه، فتشعر بأفكاره منظّمة، وأهدافه محددة. أعماله منتشرة بكثرة في لبنان وفي الدول العربية، يشارك في النشاطات والمعارض التي تقام في المنطقة، ويهدف إلى “كسر الحواجز بين لبنان والغرب” بحسب تعبيره، لأن “المصممين اللبنانيين لديهم من المواهب ما يكفي للانتشار في كافة أنحاء العالم”، كما وفي هذا الإطار يسعى إلى تحقيق مشروع توسّعي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا MENA، يكون مركزه في بيروت أو في أي دولة من هذه المنطقة “والهدف هو تحفيز المصممين العرب لوضع أفكارهم الغنية ضمن تصاميم، ثم يصار إلى تنفيذها والتسويق لها وتوزيعها من قبل المشروع، وذلك في سبيل توصيل الإبداع اللبناني والعربي إلى أرجاء العالم” فمن المهم بالنسبة إليه أن يكون هناك رابط يجمع هؤلاء المصممين، ويعمل لمصلحتهم جميعاً، ويعطيهم حقهم من الإنتشار والتوسع في الوقت عينه.
إعداد: ليزا أبو شقرا
مجلة عالم الساعات والمجوهرات العدد 119