غارق بين الكروم الهادئة

في أحد أجمل وديان أفريقيا الجنوبية Franschhoek، يقع فندق Grande Provence الذي يُعتبر مثالاً للرفاهية والراحة، ويعبّر بأسلوبه الخاص وبكل بساطة عن ثقافة تلك المنطقة الخلابة وروعة كرومها المزينة بالعناقيد المتلألئة.

في مرحلة معينة من الحياة، يبدو أن معنى كلمة «رفاهية» يتغيّر في معجم الكثيرين منّا، فندرك أنها ليست مرتبطة حكراً بالأشياء والأماكن التي اتُّفق أنها فخمة، بل أنها تتمحور بشكل رئيسي حول «سلوكياتنا» واختياراتنا وتوجّهاتنا، حيث تصبح البساطة، السلام الداخلي والخصوصية الميزات الجديدة للرفاهية، فلا تفاصيل مملة، ولا مبالغة في رسم خطوط معقّدة للأشياء. في هذه المرحلة يصبح الشعور بالاستقرارا والهدوء، والأناقة «المبسّطة» أكثر قيمة من «أحدث الإصدارات» وأفخمها أو من المنتج الذي يظهر في الساحة الإستهلاكية ويوصف بأنه من «ضروريات الحياة المرفهة»، وتمضية العطل في الطبيعة أكثر إمتاعاً من أكثر الوجهات السياحية عصرية.

كل تلك الأسباب كانت كافية لتدفعنا إلى زيارة Grande Provence، هذا المعلم التاريخي الذي يمتد على مساحة 47 فداناً، والذي جعل منه المقاول الألماني Van Heeren منزلاً ثانٍ له، وأضاف إليه مطعماً ومنزلين آخرين لاستقبال الزائرين من محبّي الطبيعة. لا شك أن Heeren يعرف تماماً كيف يجذب الزوار، فهو وإن لم يكن يتوقع يوماً أن يصبح مالك عدد من الفنادق، إلا أنه قد أغرِم خلال الفترة التي قضاها في نيوزلندا في الثمانينيات بمنتجع Huka Lodge القابع على ضفة نهر Waikato، ولم يتوانَ عن شرائه عندما عُرض للبيع، وجعل منه مقصداً لطالبي الراحة والهدوء.

كان الوقت مساءاً عندما عبرنا بوابات Grande Provence، فشقّت بنا السيارة ممراً طويلاً بين كرمات العنب، واجتزنا جسراً خشبياً تحيط به من الجانبين أشجار عملاقة، لنبلغ بعده مدخل البيت الخاص بالمالك. هناك كان هدوء تام، أضواء خفيفة منبعثة من الداخل ترحب بنا، لا حشد من موظّفي الإستقبال ولا زحمة سيارات أمام الباب الرئيسي، فقط صوت السكون. ثوانٍ لالتقاط أنفاسنا، والتمتع بالجو الرائع المحيط بنا، سبقت ظهور مدير المنزل مرحباً، يرافقه المسؤول عن خدمة الغرف ليصطحبانا إلى غرفنا ويهتما بأمتعتنا، ويرافقانا بعد ذلك إلى قاعة الإستقبال حيث استمتعنا بعشاء لذيذ وخفيف،على ضوء الشموع المرفق بأريج الأزهار، ورائحة الخشب الآتية من الموقد، والتي تبعث الدفء في النفس والجسد. ودّعنا Elzaan وWillington وتمنيا لنا ليلة سعيدة ونوماً هنيئاً، ما عزّز الشعور بأننا أقرب إلى ضيوف في ذلك البيت من كوننا زوّار للفندق.

هذا الشعور بالإلفة رافقنا طيلة المدة التي قضيناها في Grande Provence، بدءاً من مائدة الفطور الطازج صباح اليوم الثاني في وسط أجواء رطبة ندية، حيث بدت ألوان الطبيعة زاهية بعد الأمطار الخفيفة التي تخللت الليلة الماضية. الهواء كان منعشاً لا بل نوعاً ما بارداً، ما جعلنا نقاوم إغراء فكرة السباحة الصباحية في الحوض الخاص بالفيلا، والذي يتوسط المساحات الخضراء لحديقتها الشاسعة.

إن متعة الإقامة في منتجع كهذا لا تقتصر على الخدمة العالية المستوى التي يمنحها فريق عمله للزوار، والموائد المميزة والأطباق اللذيذة التي يقدمها فريق الطهاة المتخصص في مطعمه، بل هي تتحوّل فضولاً لاستكشاف تاريخ هذا المعلم التاريخي الذي بُني أصلاً كمزرعة في أواخر القرن السابع عشر من قبل لاجئين فرنسيين سكنوا المنطقة في تلك الحقبة وأعطوها تسمية Franschhoek التي تعني «الركن الفرنسي».

فالبيت الذي يشغله المالك Van Heeren أنجز بناؤه في العام 1694، وقد أضيفت إليه مع الوقت المباني الأخرى الموجودة اليوم. فتم ترميم هذه المباني كلها، وتطعيم ديكورها الداخلي بخطوط ريفية أنيقة منكهة بخلطة ألمانية ونيوزيلندية بتوقيع Heeren، كما وأدخلت إليها بعض الملامح الأفريقية لتحاكي منطقتها ومحيطها، وتمنح زوارها شعوراً بالانتماء الطبيعي إلى المكان، ورغبة شديدة بالإقامة فيه بسلام وهدوء.

أما المطعم فتفصل بينه وبين «بيوت الضيافة» كروم مديدة مكتظة بعناقيد العنب، وتحيط به حدائق مزينة بمنحوتات ضخمة موضوعة بين أشجار السنديان القديمة، ونبتات الخزامى التي تعطر الجو. في هذا المكان الذي يحرص فريق الطهاة فيه على تقديم خلطات متنوّعة ورائعة من النكهات والأصناف المقدّمة بأساليب فنية تشغل بشكلها ومذاقها الحواس الخمس، جلسنا مطوّلاً إلى مائدة الغداء لنستمتع بما تبقى لنا من الوقت في المنطقة.

إن منطقة Franschhoek هي بقعة رائعة من أفريقيا الجنوبية، تتيح لزوارها فرصة المشاركة في الكثير من النشاطات وإمضاء عطلات مميزة، ولكن Grande Provence منحنا بالضبط ما كنا نبحث عنه في تلك الرحلة، وهو فقط الاستمتاع بالهدوء والسكينة والسلام.

 

إعداد : ساندرا ليين   |   words : sandra lane

مقالات ذات صلة