بالرغم من ثورة الأشكال والألوان والوظائف اللامألوفة والأحجام الضخمة التي شهدها عالم صناعة الوقت في العقود الأخيرة من الزمن، يمكننا القول أن الساعات الكلاسيكية لم ولن تذهب بعيداً، فهي ما زالت تحتل مكانة شديدة الأهمية في المجموعات الحديثة للدور، وتقف قوية في مواجهة التصاميم غير التقليدية، والساعات الذكية التي استجدّت مؤخراً وباتت متواجدة بكثرة في الأسواق العالمية.
لقارئات الوقت عالمها الخاص الغني بأساليبه وخطوطه الهندسية المتنوّعة، فتجد فيه الساعات الكلاسيكية المظهر التي تأتي بتصاميم تتّسم بالجمال والبساطة، تتلاءم مع أهواء الكثيرين من «كلاسيكيّي» الطبع، وتتمسّك بتقاليد المهنة وأرقى معاييرها. كما ومن ناحية أخرى استجدّت على القطاع إصدارات يتخطّى مصمموها المألوف، فيأتون بأفكار عصرية لا تخطر في البال، لتقديم طرق جديدة لقراءة الوقت وعرضه. لكن وبالرغم من ذلك، فإن هذه الثورة لم تستطع إلغاء أو تحجيم دور التصاميم الكلاسيكية ذات الجمال المتحفّظ، وجنون التصميم لم يؤثّر بأي شكل على قيمة واستمرارية هذه القطع التي تتمتع بثقة الجمهور، ولم يبطئ إنتاجيتها. ففي صالون جنيف العالمي للساعات الراقية هذه السنة، شهدنا على إطلاق عدد من النماذج الكلاسيكية في أحدث إصدارات الدور، نذكر منها مثلاً ساعات مجموعة 4810 لدار Montblanc المزوّدة بخصائص ووظائف متنوّعة من التوربيون إلى الكرونوغراف والتوقيت العالمي، التي أطلقتها للمرة الأولى في العام 2006 للاحتفال بعيدها الـ 100، وهي تلقي التحية على العصر الذهبي للطيران، وتحافظ على تقاليد وأصول صناعة الساعات السويسرية والخطوط الكلاسيكية البسيطة التي تعتمدها الدار. فما الذي يجعل هذا الخط ثابتاً، لا تهزه رياح التغيير، ولا تلغيه؟
للإجابة، نبدأ أولاً بتعريف الكلاسيكية. هي أسلوب فنّي معروف بأنه يتمسّك بالعادات القديمة دون تغيير أو إضافات. والحقيقة أن كلمة «كلاسيكية» هي مفردة يونانية تعني «الطراز الأول» أو المثال النموذجي. فترتكز على قواعد دقيقة لا يجوز الخروج عنها، وتعتمد على الأصول الجمالية والنسب المثالية التي تصلح لأن تُنعت بالجميلة في كل مكان وزمان. ودور الساعات العريقة التي تتمسّك بتقاليدها وإرثها هي في الأغلب تعتمد هذه الركائز، فهي تحافظ على الخطوط الجمالية الأصلية الثابتة لمجموعاتها، وتعمل في الوقت نفسه على تحديث إصداراتها من الناحية التقنية والتصميمية. وبتعبير آخر، من الممكن أن تلتزم هذه الدور مثلاً بشكل موحّد للعلبة في كامل إصداراتها، وتُسكنَها آليات مختلفة تمنح وظائف وتعقيدات جديدة، ولكنها تقدّمها بقالب خاص ينبعث من روحيتها الكلاسيكية ويخضع في بعض الأحيان لتغييرات بسيطة جداً من حيث القياس أو المواد المستعملة أو الألوان.
فإذا أخذنا على سبيل المثال إصدارات العام 2015 لدار A. Lange & Söhne والتي احتفلت من خلالها بالعيد الـ 200 لمؤسس الدار فرديناند أدولف لانغيه، نجد أنها التزمت بالخطوط الأساسية لمجموعات 1815 وSaxonia وLange 1 أي أنها احتفظت بالشكل المستدير للعلبة، والخصائص التقنية فحافظ فنّانو الدار على التصاميم الأصلية، مع تغييرات محدودة من حيث المعدن أو لون الميناء أو الوظائف البسيطة التي تضيفها إلى البعض من النماذج. والأمر ينطبق أيضاً على الكثير من إصدارات الدور الأخرى، مثل ساعة Grande Seconde Deadbeat لدار Jaquet Droz التي أصدرتها عام 2015، لتلقي من خلالها التحية على عصر التنوير الممتد من أواخر القرن السابع عشر حتى أوائل القرن التاسع عشر، حيث كانت وظيفة الثواني المستقلة تتخذ لنفسها موقعاً مهماً في القطاع، فأتت هذه الساعة بعقرب مركزي ضابط للثواني بينما عرضت الساعات والدقائق في ميناء فرعي متداخل مع الميناء الفرعي الآخر الخاص بالتاريخ التراجعي، الذي يشغل المكان الذي كان مخصصاً للثواني في النموذج التاريخي الأصلي لهذه الساعة. وأيضاً تابعت Blancpain إصدار ساعاتها الكلاسيكية الطابع التي تحمل اسم منطقتها الأم Villeret، وأغنت دار Laurent Ferrier مجموعة Galet بساعة عصرية تمنح وظيفة التوقيت العالمي، ولكنها أتت بخطوط كلاسيكية، وعلبة مستديرة وميناء واضح وبسيط.
ساعتك تخبر عنك..!
المعلوم أن انتقاء قارئة الوقت يرتبط مباشرة بالشخصية وسماتها ونوعية الحياة اليومية من جهة، وبالفئات العمرية واهتماماتها المختلفة من جهة أخرى. فمن الممكن أن ترى مثلاً على معصم الأشخاص الذين يميلون بطبعهم إلى التحفّظ والأناقة، ساعات تحمل توقيع Patek Philippe أو ساعة من مجموعة Royal Oak لدار Audemars Piguet، أو ساعة Venturer Big Date من أحدث إصدارات دار
H. Moser & Cie.، وقد أتت بميناء مدخّن يعرض الوقت والتاريخ، داخل علبة من الذهب الوردي ويرافقها سوار جلدي.
ومن جهة أخرى، هناك أيضاً من يتخطى كونه كلاسيكياً أو ثائراً على المألوف لينضم إلى فئة جامعي الساعات الراقية الذين لديهم عالمهم الخاص أيضاً، فبينهم من يجمعون القطع القديمة التذكارية المحدودة الإصدار، بينما يسعى البعض الآخر إلى امتلاك الساعات الحديثة الفريدة الإصدار، إضافة إلى من يهوون جمع الإصدارات الخاصة بدار معيّنة، أو الساعات التي تحتوي تعقيدات محدّدة أو وظائف استثنائية كالروزنامة الدائمة، أو الوظائف التراجعية أو الدقائق التردادية أو غيرها، أو أولئك الذين تستهويهم الساعات المصنوعة من مواد أو معادن ثمينة معيّنة وغير ذلك من الخصائص التي لا تعد ولا تحصى.
وهؤلاء الهواة الشغوفون يتوجّهون في أكثر الأحيان إلى إنتاجات الدور الكلاسيكية الطابع التي تتمتّع بمصداقية زمنية، وخطوط ثابتة لا ترتبط بمكان أو زمان، فتجد بعض إصداراتها الاستثنائية بعد سنوات قليلة تتصدّر المزادات وتحقّق أرقاماً قياسية. فساعة التعقيدات الكبرى من Patek Philippe التي صُنعت في العام 1933 للمصرفي Henry Graves Jr، ما زالت تكسّر أرقامها القياسية في المزادات، فهي قد بيعت بحسب علمنا للمرة الأخيرة في مزاد Sotheby’s في جنيف في الحادي عشر من نوفمبر 2014 بـ 23.237.000 فرنك سويسري، أي ما يتخطى الـ 24 مليون دولار أميركي. وإلى ذلك، تتصدر الساعات الكلاسيكية عدداً كبيراً من المزادات، فتعبّر بوضوح عن رغبة الجامعين بإغناء مجموعاتهم بالقطع التي تحتفظ بسماتها الجميلة إلى الأبد.
وفي سياق آخر، يمكننا القول أن المصداقية التي تجمع بين دور الساعات الكلاسيكية وجمهورها ناتجة عن عامل آخر، ألا وهو شعار «صُنع في سويسرا» الذي يزيّن غالبية إصداراتها، فغني عن القول أن الساعات الكلاسيكية الراقية هي في الغالب من إنتاج دور سويسرية عريقة بنت سمعتها الطيبة على مدى سنين طويلة من العمل المستمر، استطاعت خلالها كسب ثقة الجمهور حول العالم، فشُرّعت أمامها أبواب الأسواق العالمية (مع وجود بعض الإستثناءات، على سبيل المثال دار إيه. لانغيه أند زونه الألمانية التي تُعتبر إنتاجاتها بين أهم الساعات الكلاسيكية في القطاع). ومن ناحية أخرى، فإن المعادن النفيسة التي تطغى على القسم الأكبر من الإنتاجات الكلاسيكية الطابع، تجعلها تحظى باستحسان كبير بسبب القيمة المادية التي تضفيها عليها هذه المواد وتبقيها ثابتة على رأس الهرم. فتعمل الدور على طرح قطع جديدة من مجموعاتها المصوغة من الذهب والبلاتين التي أحبها المستهلكون على مدى سنوات، لما في ذلك من تمكين الروابط والثقة والاستمرارية في العلاقة بينها وبين الجمهور. ونرى ذلك على سبيل المثال في إصدارات كل من Vacheron
Constantin وBreguet، إلى جانب العديد من الساعات التي تحمل توقيع Tiffany & Co.، وZenith وغيرها.
هي آلات وقت راقية فاخرة طيّبة السمعة، تتمسّك بجذورها وركائزها الصلبة، تتنوّع بينها الخيارات بحسب الأذواق، وتُفتَح لها أبواب العالم بأسره بثقة تامة. فهي تحرص على كونها صناعة حرفية عالية الجودة. هيكل متين، مواد صلبة ومعادن ثمينة، آلية دقيقة متطوّرة، تعقيدات وخصائص تقنية، قدرات استثنائية ووظائف تتخطّى قراءة الوقت… ساعات تتوجّه بها الدور إلى من هم مستعدون لإنفاق مبالغ مرتفعة، لا بل خيالية في بعض الأوقات في سبيل امتلاك ساعة راقية تتماشى مع أذواقهم وتلاقي تطلعاتهم…